آیه 3، سوره مائده : الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏3، ص 588 

بعد أنّ بيّنت الآية الأحكام التي مرّ ذكرها أوردت جملتين تحتويان معنى عميقا: الأولى منهما تقول: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ‏.

و الثّانية هي: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً.

متى أكمل اللّه الدين للمسلمين:
إنّ أهمّ بحث تطرحه هاتان الفقرتان القرآنيتان يتركز في كنهه و حقيقته كلمة «اليوم» الواردة فيهما.
فأيّ يوم يا ترى هو ذلك «اليوم» الذي اجتمعت فيه هذه الأحداث الأربعة

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏3، ص 589

المصيرية، و هي يأس الكفار، و إكمال الدين، و إتمام النعمة، و قبول اللّه لدين الإسلام دينا ختاميا لكل البشرية؟

لقد قال المفسّرون الكثير في هذا المجال، و ممّا لا شك فيه و لا ريب أن يوما عظيما في تاريخ حياة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- كهذا اليوم- لا يمكن أن يكون يوما عاديا كسائر الأيّام، و لو قلنا بأنّه يوم عادي لما بقي مبرر لإضفاء مثل هذه الأهمية العظيمة عليه كما ورد في الآية.

و قيل أنّ بعضا من اليهود و النصارى قالوا في شأن هذا اليوم بأنّه لو كان قد ورد في كتبهم مثله لاتّخذوه عيدا لأنفسهم و لاهتموا به اهتماما عظيما «1».

و لنبحث الآن في القرائن و الدلائل و في تاريخ نزول هذه الآية و تاريخ حياة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الروايات المختلفة المستفادة من مصادر إسلامية عديدة، لنرى أي يوم هو هذا اليوم العظيم؟

ترى هل هو اليوم الذي أنزل فيه اللّه الأحكام المذكورة في نفس الآية و الخاصّة بالحلال و الحرام من اللحوم؟
بديهي أنّه ليس ذلك لأنّ نزول هذه الأحكام لا يوجب إعطاء تلك الأهمية العظيمة، و لا يمكن أن يكون سببا لإكمال الدين، لأنّها لم تكن آخر الأحكام التي نزلت على النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الدليل على هذا القول ما نراه من أحكام تلت الأحكام السابقة في نزولها، كما لا يمكن القول بأن الأحكام المذكورة هي السبب في يأس الكفار، بل إنّ ما يثير اليأس لدى الكفار هو إيجاد دعامة راسخة قوية لمستقبل الإسلام،

و بعبارة أخرى فإنّ نزول أحكام الحلال و الحرام من اللحوم لا يترك أثرا في نفوس الكفار، فما ذا يضيرهم لو كان بعض اللحوم حلالا و بعضها الآخر حراما؟! فهل المراد من ذلك «اليوم» هو يوم عرفة من حجّة الوداع، آخر حجّة قام بها
______________________________
(1)- تفسير المنار، ج 6، ص 155.

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏3، ص 590

النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (كما احتمله بعض المفسّرين)؟

و جواب هذا السؤال هو النفي أيضا، لأنّ الدلائل المذكورة لا تتطابق مع هذا التّفسير، حيث لم تقع أيّ حادثة مهمّة في مثل ذلك اليوم لتكون سببا ليأس الكفار و لو كان المراد هو حشود المسلمين الذين شاركوا النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في يوم عرفة، فقد كانت هذه الحشود تحيط بالنّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مكّة قبل هذا اليوم أيضا، و لو كان المقصود هو نزول الأحكام المذكورة في ذلك اليوم، فلم تكن الأحكام تلك شيئا مهمّا مخيفا بالنسبة للكفار.

ثمّ هل المقصود بذلك «اليوم» هو يوم فتح مكة (كما احتمله البعض)؟ و من المعلوم أنّ سورة المائدة نزلت بعد فترة طويلة من فتح مكة! أو أنّ المراد هو يوم نزول آيات سورة البراءة، و لكنها نزلت قبل فترة طويلة من سورة المائدة.

و الأعجب من كل ما ذكر هو قول البعض بأن هذا اليوم هو يوم ظهور الإسلام و بعثة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع أن هذين الحدثين لا علاقة زمنية بينهما و بين يوم نزول هذه الآية مطلقا و بينهما فارق زمني بعيد جدّا.

و هكذا يتّضح لنا أنّ أيّا من الاحتمالات الستة المذكورة لا تتلاءم مع محتوى الآية موضوع البحث.
و يبقى لدينا احتمال أخير ذكره جميع مفسّري الشيعة في تفاسيرهم و أيدوه كما دعمته روايات كثيرة،

و هذا الاحتمال يتناسب تماما مع محتوى الآية حيث يعتبر «يوم غدير خم» أي اليوم الذي نصب النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليا أمير المؤمنين عليه السّلام بصورة رسمية و علنية خليفة له، حيث غشى الكفار في هذا اليوم سيل من اليأس، و قد كانوا يتوهمون أن دين الإسلام سينتهي بوفاة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أن الأوضاع ستعود إلى سابق عهد الجاهلية، لكنّهم حين شاهدوا أنّ النّبي أوصى بالخلافة بعده لرجل كان فريدا بين المسلمين في علمه و تقواه و قوته و عدالته، و هو علي‏

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏3، ص 591

بن أبي طالب عليه السّلام، و رأوا النّبي و هو يأخذ البيعة لعلي عليه السّلام أحاط بهم اليأس من كل جانب، و فقدوا الأمل فيما توقعوه من شر لمستقبل الإسلام و أدركوا أن هذا الدين باق راسخ.

ففي يوم غدير خم أصبح الدين كاملا، إذ لو لم يتمّ تعيين خليفة للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لو لم يتمّ تعيين وضع مستقبل الأمّة الإسلامية، لم تكن لتكتمل الشريعة بدون ذلك و لم يكن ليكتمل الدين.

نعم في يوم غدير خم أكمل اللّه و أتمّ نعمته بتعيين علي عليه السّلام، هذا الشخصية اللائقة الكفؤ، قائدا و زعيما للأمة بعد النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و في هذا اليوم- أيضا- رضي اللّه بالإسلام دينا، بل خاتما للأديان، بعد أن اكتملت مشاريع هذا الدين، و اجتمعت فيه الجهات الأربع.

و فيما يلي قرائن أخرى إضافة إلى ما ذكر في دعم و تأييد هذا التّفسير:

2- لقد ذكرت تفاسير «الرازي» و «روح المعاني» و «المنار» في تفسير هذه الآية أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يعش أكثر من واحد و ثمانين يوما بعد نزول هذه الآية، و هذا أمر يثير الانتباه في حد ذاته، إذ حين نرى أنّ وفاة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كانت في اليوم الثّاني عشر من ربيع الأوّل (بحسب الروايات الواردة في مصادر جمهور السنّة، و حتى في بعض روايات الشيعة، كالتي ذكرها الكليني في كتابه المعروف بالكافي) نستنتج أن نزول الآية كان بالضبط في يوم الثامن عشر من ذي الحجّة الحرام، و هو يوم غدير خم‏ «1».

ب- ذكرت روايات كثيرة- نقلتها مصادر السنّة و الشيعة- أنّ هذه الآية الكريمة نزلت في يوم غدير خم، و بعد أن أبلغ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المسلمين بولاية علي‏
______________________________
(1)- إنّ هذا الحساب يكون صحيحا إذا لم ندخل يوم وفاة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يوم غدير خم في الحساب، و أن يكون في ثلاثة أشهر متتاليات مشهرات عدد أيّام كل منهما (29) يوما، و نظرا لأن أي حدث تاريخي لم يحصل قبل و بعد يوم غدير خم، فمن المرجح أن يكون المراد باليوم المذكور في الآية هو يوم غدير خم.

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏3، ص 592

بن أبي طالب عليه السّلام، و من هذه الروايات:

2- ما نقله العالم السنّي المشهور «ابن جرير الطبري» في كتاب «الولاية» عن «زيد بن أرقم» الصحابي المعروف، أنّ هذه الآية نزلت في يوم غدير خم بشأن علي بن أبي طالب عليه السّلام.

2- و نقل الحافظ «أبو نعيم الأصفهاني» في كتاب «ما نزل من القرآن بحق علي عليه السّلام» عن «أبي سعيد الخدري» و هو صحابي معروف- أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعطى في «يوم غدير خم» عليا منصب الولاية ... و إنّ الناس في ذلك اليوم لم يكادوا ليتفرقوا حتى نزلت آية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... فقال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و في تلك اللحظة «اللّه أكبر على إكمال الدين و إتمام النعمة و رضى الرب برسالتي و بالولاية لعلي عليه السّلام من بعدي» ثمّ‏ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهم و ال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره و اخذل من خذله».

3- و روى «الخطيب البغدادي» في «تاريخه» عن «أبي هريرة» عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ آية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... نزلت عقيب حادثة «غدير خم» و العهد بالولاية لعلي عليه السّلام و قول عمر بن الخطاب: «بخ بخ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي و مولى كل مسلم» «1».
و جاء في كتاب «الغدير» إضافة إلى الروايات الثلاث المذكورة، ثلاث عشرة رواية أخرى في هذا المجال.
ورود في كتاب «إحقاق الحق» نقلا عن الجزء الثّاني من تفسير «ابن كثير» من الصفحة 14 و عن كتاب «مقتل الخوارزمي» في الصفحة 47

عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم‏ أنّ هذه الآية نزلت في واقعة غدير خم.
______________________________
(1)- لقد أورد العلّامة الأميني رحمه اللّه هذه الروايات الثلاثة بتفاصيلها في الجزء الأوّل من كتابه «الغدير» في الصفحات 230 و 231 و 232 كما ورد في كتاب «إحقاق الحق» في الجزء السادس و الصفحة 353 أن نزول الآية كان في حادثة غدير خم نقلا عن أبي هريرة من طريقين، كما نقلها عن أبي سعيد الخدري من عدة طرق.

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏3، ص 593

و نرى في تفسير «البرهان» و تفسير «نور الثقلين» عشر روايات من طرق مختلفة حول نزول الآية في حق علي عليه السّلام أو في يوم غدير خم، و نقل كل هذه الروايات يحتاج إلى رسالة منفردة «1».

و قد ذكر العلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين في كتابه «المراجعات» أن الروايات الصحيحة المنقولة عن الإمامين الباقر و الصّادق عليهما السّلام تقول بنزول هذه الآية في «يوم غدير خم» و إنّ جمهور السنّة أيضا قد نقلوا ستة أحاديث بأسانيد مختلفة عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تصرح كلها بنزول الآية في واقعة غدير خم‏ «2».

يتّضح ممّا تقدم أنّ الروايات و الأخبار التي أكّدت نزول الآية- موضوع البحث- في واقعة غدير خم ليست من نوع أخبار الآحاد لكي يمكن تجاهلها، عن طريق اعتبار الضعف في بعض أسانيدها، بل هي أخبار إن لم تكن في حكم المتواتر فهي على أقل تقدير من الأخبار المستفيضة التي تناقلتها المصادر الإسلامية المشهورة.

و مع ذلك فإنّنا نرى بعضا من العلماء المتعصبين من أهل السنّة كالآلوسي في تفسير «روح المعاني» الذي تجاهل الأخبار الواردة في هذا المجال لمجرّد ضعف سند واحد منها، و قد وصم هؤلاء هذه الرواية بأنّها موضوعة أو غير صحيحة، لأنّها لم تكن لتلائم أذواقهم الشخصية، و قد مرّ بعضهم في تفسيره لهذه الآية مرور الكرام و لم يلمح إليها بشي‏ء، كما في تفسير المنار، و لعل صاحب المنار وجد نفسه في مأزق حيال هذه الروايات فهو إن وصمها بالضعف خالف بذلك منطق العدل و الإنصاف، و إن قبلها عمل شيئا خلافا لميله و ذوقه.

و قد وردت في الآية (55) من سورة النور نقطة مهمّة جديرة بالانتباه- فالآية تقول:
______________________________
(1)- راجع تفسير الآية في الجزء الأول من تفسير البرهان و الجزء الأول من تفسير «نور الثقلين».
(2)- راجع كتاب «المراجعات» الطبعة الرابعة، ص 38.

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏3، ص 594

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‏ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ... و اللّه سبحانه و تعالى يقطع في هذه الآية وعدا على نفسه بأن يرسخ دعائم الدين، الذي ارتضاه للمؤمنين في الأرض.

و لمّا كان نزول سورة النور قبل نزول سورة المائدة، و نظرا إلى جملة رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً الواردة في الآية الأخيرة- موضوع البحث- و التي نزلت في حق علي بن أبي طالب عليه السّلام، لذلك كله نستنتج أنّ حكم الإسلام يتعزز و يترسخ في الأرض إذا اقترن بالولاية، لأن الإسلام هو الدين الذي ارتضاه اللّه و وعد بترسيخ دعائمه و تعزيزه، و بعبارة أوضح أن الإسلام إذا أريد له أن يعم العالم كله يجب عدم فصله عن ولاية أهل البيت عليهم السّلام.

أمّا الأمر الثّاني الذي نستنتجه من ضمن الآية الواردة في سورة النور إلى الآية التي هي موضوع بحثنا الآن، فهو أن الآية الأولى قد أعطت للمؤمنين و عودا ثلاثة:

أوّلها: الخلافة على الأرض.

و الثّاني: تحقق الأمن و الاستقرار لكي تكون العبادة للّه وحده.

و الثّالث: استقرار الدين الذي يرضاه اللّه في الأرض.

و لقد تحققت هذه الوعود الثلاثة في «يوم غدير خم» بنزول آية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... فمثال الإنسان المؤمن الصالح هو علي عليه السّلام الذي نصب وصيّا للنّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و دلت عبارة الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ... على أن الأمن قد تحقق بصورة نسبية لدى المؤمنين، كما بيّنت عبارة: وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً إنّ اللّه قد اختار الدين الذي يرتضيه، و أقرّه بين عباده المسلمين.

و هذا التّفسير لا ينافي الرواية التي تصرح بأنّ آية سورة النور قد نزلت في شأن المهدي المنتظر عجل اللّه تعالى فرجه الشريف، و ذلك لأنّ عبارة آمَنُوا مِنْكُمْ‏ لها معنى واسع تحقق واحد من مصاديقه في «يوم غدير خم» و سيتحقق‏

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏3، ص 595

على مدى أوسع و أعم في زمن ظهور المهدي عجل اللّه تعالى فرجه الشريف (و على أساس هذا التّفسير فإنّ كلمة الأرض في الآية الأخيرة ليست بمعنى كل الكرة الأرضية، بل لها مفهوم واسع يمكن أن يشمل مساحة من الأرض أو الكرة الأرضية بكاملها).

و يدل على هذا الأمر المواضع التي وردت فيها كلمة «الأرض» في القرآن الكريم، حيث وردت أحيانا لتعني جزءا من الأرض، و أخرى لتعني الأرض كلها، (فأمعنوا النظر و دققوا في هذا الأمر).

سؤال يفرض نفسه:
و أخيرا بقي سؤال ملح و هو:

أوّلا: إن الأدلة المذكورة في الآية- موضوع البحث- و الأدلة التي ستأتي في تفسير الآية (67) من سورة المائدة و التي تقول: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ... لو كانت كلها تخص واقعة واحدة، فلما ذا فصل القرآن بين هاتين الآيتين و لم تأتيا متعاقبين في مكان واحد؟

 ثانيا: لا يوجد ترابط موضوعي بين ذلك الجزء من الآية الذي يتحدث عن واقعة «غدير خم» و بين الجزء الآخر منها الذي يتحدث عن الحلال و الحرام من اللحوم، فما هو سبب هذه المفارقة الظاهرة؟ «1»

الجواب:

أوّلا: نحن نعلم أنّ الآيات القرآنية- و كذلك سور القرآن الكريم- لم تجمع كلها مرتبة بحسب نزولها الزمني، بل نشاهد كثيرا من السور التي نزلت في المدينة فيها آيات مكية أي نزلت في مكة، كما نلاحظ آيات مدنية بين السور المكية أيضا.

و بناء على هذه الحقيقة، فلا عجب- إذن- من وجود هذا الفاصل في القرآن‏
______________________________
(1)- لقد أورد هذا الاعتراض تلميحا صاحب تفسير «المنار» لدى الحديث عن هذه الآية، ج 6، ص 266.

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏3، ص 596

بين الآيتين المذكورتين (و يجب الاعتراف بأن ترتيب الآيات القرآنية بالصورة التي هي عليها الآن قد حصل بأمر من النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نفسه) فلو كانت الآيات القرآنية مرتبة بحسب زمن نزولها لأصبح الاعتراض واردا في هذا المجال.

ثانيا: هناك احتمال بأن يكون سبب حشر موضوع واقعة «غدير خم» في آية تشمل على موضوع لا صلة لها به مطلقا، مثل موضوع أحكام الحلال و الحرام من اللحوم، إنما هو لصيانة الموضوع الأوّل من أن تصل إليه يد التحريف أو الحذف أو التغيير.

إنّ الأحداث التي وقعت في اللحظات الأخيرة من عمر النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الاعتراض الصريح الذي واجهه طلب النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكتابة وصيته، إلى حدّ وصفوا النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لدى طلبه هذا الأمر بأنّه يهجر (و العياذ باللّه) و قد وردت تفاصيل هذه الوقائع في الكتب الإسلامية المعروفة، سواء عن طريق جمهور السنّة أو الشيعة، و هي تدل بوضوح على الحساسية المفرطة التي كانت لدى نفر من الناس تجاه قضية الخلافة بعد النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث لم يتركوا وسيلة إلّا استخدموها لإنكار هذا الأمر «1».

فلا يستبعد- و الحالة هذه- أن تتخذ اجراءات وقائية لحماية الأدلة و الوثائق الخاصّة بالخلافة من أجل إيصالها إلى الأجيال المتعاقبة دون أن تمسّها يد التحريف أو الحذف، و من هذه الإجراءات حشر موضوع الخلافة- المهم جدّا- في القرآن بين آيات الأحكام الشرعية الفرعية لإبعاد عيون و أيدي المعارضين و العابثين عنها.
إضافة إلى ذلك- و كما أسلفنا في حديثنا- فإنّ الوثائق الخاصّة بنزول آية:
______________________________
(1)- نقل هذه الواقعة واحد من أشهر كتب السنّة و هو كتاب «صحيح البخاري» و في عدّة أبواب منها باب «كتاب المرضى» في الجزء الرابع، و باب «كتاب العلم» في الجزء الأوّل، ص 22 و في باب «جوائز وفد» من كتاب الجهاد، ص 118، ج 2 كما وردت في كتاب «صحيح مسلم» في آخر الوصايا بالإضافة إلى كتب أخرى ذكرها المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين رحمه اللّه في كتابه «المراجعات» تحت عنوان «رزية يوم الخميس».

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏3، ص 597

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... الواردة في واقعة «غدير خم» حول قضية الخلافة بعد النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم تقتصر كتب الشيعة وحدهم على ذكرها، بل تناقلها- أيضا- الكثير من كتب السنّة من طرق متعددة عن ثلاثة من الصحابة المعروفين.

لقد أعادت الآية- في نهايتها- الكرة في التحدث عن اللحوم المحرمة فبيّنت حكم الاضطرار في حالة المعاناة من الجوع إذ أجازت تناول اللحم المحرم بشرط أن لا يكون هدف الشخص ارتكاب المعصية من تناول ذلك، مشيرة إلى غفران اللّه و رحمته في عدم إلجاء عباده عند الاضطرار إلى تحمل المعاناة و المشقة، و عدم معاقبتهم في مثل هذه الحالات‏.

نسخه شناسی

درباره مولف

کتاب شناسی

منابع: 

مكارم شيرازى ناصر، الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، قم، مدرسه امام على بن ابى طالب، 1421 ق، چاپ اول، ج‏3 ، صص 588-597