آیه 3، سوره مائده، تفسير من وحى القرآن

تفسير من وحى القرآن، ج‏8 ، ص   44   

اليوم يئس الّذين كفروا

الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ‏ و كان الكافرون يطمعون في إضلال المؤمنين في عقيدتهم و عملهم، و هم يتحينون الفرص للوصول إلى هدفهم، فقد يلوّحون بالرغبة تارة، و قد يثيرون الرهبة في أجواء الرعب أخرى .. و تقدمت المسيرة في اتجاه الثبات و الصمود، و دارت هناك معارك كثيرة، و عاش المسلمون الصراع كأقسى ما يكون، و انتقل الإسلام من دور الفكر العقيدي إلى دور الخط التشريعي الَّذي يدخل مع المسلمين في حياتهم الخاصة و العامة، فيعمق لهم الإحساس بالانتماء و الالتزام باللّه و رسوله، و يثير في أنفسهم الشعور بالقوّة من خلال التخطيط

تفسير من وحى القرآن، ج‏8، ص: 45

للكيان المتكامل الَّذي لا تجد فيه أيّة ثغرة في فكر أو شريعة، و يحدّد لهم الفواصل الّتي تفصلهم عن الكافرين في فكرهم و عاداتهم و تقاليدهم حتّى في ما يتعلّق بأكلهم و شربهم و لبسهم، و ممارستهم لأساليب الحياة ...
و بدأ الكفَّار يشعرون باليأس، فمحاولاتهم المتكررة و قد تحطمت على صخرة الواقع الإسلامي الجديد الَّذي يلتقي بالصمود و الثبات، و جاء القرآن ليبشر المؤمنين بتراجع الكافرين عن خططهم تحت و وطأة الشعور باليأس، و ليدعوهم إلى عدم الخوف منهم في المستقبل، و ليعلموا على تعميق خوف اللّه في نفوسهم، لأنّ الخوف من اللّه هو الَّذي ركّز أقدامهم على الطريق و قادهم إلى الفتح و النصر، و هو الَّذي يدفعهم من جديد إلى انتصارات جديدة، و فتوحات جديدة.

إكمال الدين .. بولاية عليّ (ع)

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً، هذا الدين الَّذي تكامل من خلال نزوله منجّما على النبي صلى اللّه عليه و اله و سلّم حاملا مع كل آية من آياته المفاهيم العامة للكون و الإنسان و الحياة. و كان التشريع يخطو خطواته الثابتة راصدا الواقع و مراقبا حاجاته ليأتي في حجم المشكلة، و كان اللّه رفيقا بعباده، فلم ينزل عليهم القرآن جملة واحدة، و لم يبعث الأحكام لهم دفعة واحدة، بل كان التدرج هو الخط الَّذي خطّه الإسلام للإنسان ليصل به إلى التكامل، حتّى كانت نهاية المطاف و أكمل اللّه للمسلمين دينهم، و أتمّ عليهم نعمته به، فهو النعمة الّتي لا نعمة مثلها، لأنَّها السبيل إلى النجاة في الدنيا و الآخرة .. فرضي لهم الإسلام دينا.

تفسير من وحى القرآن، ج‏8، ص: 46

و لنا أن نتساءل عمّا أنزله اللّه على رسوله فكمل به الدين، و رضيه للمسلمين دينا، و تمت به النعمة؟ لقد اختلف المفسرون في ذلك، فمنهم من قال: إنَّه فرائض اللّه و حدوده و حلاله و حرامه، الّتي أكملها اللّه للمسلمين في ذلك الوقت بتنزيل آخر حكم شرعي، و منهم من قال: إنّه إكمال الحج و تخصيصهم بالبلد الحرام، بعد أن كان مشتركا بينهم و بين المشركين، و منهم من قال: إنَّه إكمال الدين بإكمال قوته و سلطته و كفايته الأعداء .. و
المروي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنَّه قال: «آخر فريضة أنزلها اللّه تعالى الولاية، ثمَّ لم ينزل بعدها فريضة، ثمَّ نزل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏ بكراع الغميم‏ «1»، فأقامها رسول اللّه بالجحفة، فلم ينزل بعدها فريضة» «2»

و روى صاحب «مجمع البيان» عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه، كما نقلها الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في كتاب «نزول القرآن» «أنَّ النبي صلى اللّه عليه و اله و سلّم أعطى في غدير خم عليا منصب الولاية، و أنَّ النّاس في ذلك اليوم لم يكادوا ليتفرقّوا حتّى نزلت آية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏، فقال له النبي صلى اللّه عليه و اله و سلّم في تلك اللحظة: اللّه أكبر على إكمال الدين، و إتمام النعمة، و رضى الرب برسالتي، و ولاية عليّ بن أبي طالب من بعدي، و قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله» «3».

و ما يجاري صدقيّة هذه الرِّوايات ما رواه ابن جرير الطبري في كتاب الولاية عن زيد بن أرقم- الصحابي المعروف- أنَّ هذه الآية نزلت في يوم غدير خم بشأن علي بن أبي طالب. و كذلك‏
روى الخطيب البغدادي في تاريخه عن أبي هريرة، نقلا عن تفسير الأمثل، «عن النبي صلى اللّه عليه و اله و سلّم‏ أنَّ آية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏
______________________________
(1) كراع الغميم: اسم موضع بين مكّة و المدينة.
(2) البحار، م: 12، ج: 37، ص: 343، باب: 52، رواية: 5.
(3) مجمع البيان، ج: 3، ص: 200.

تفسير من وحى القرآن، ج‏8، ص: 47

نزلت عقيب حادثة غدير خم و العهد بالولاية لعلي عليه السّلام، و في هذه المناسبة قال عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا بن أبي طالب، أصبحت مولاي و مولى كل مسلم» «1».

و جاء في كتاب الغدير إضافة إلى الرِّوايات الثالث المذكورة، ثلاث عشرة رواية أخرى في هذا المجال.

و ورد في تفسير البرهان و تفسير نور الثقلين عشر روايات مختلفة حول نزول الآية في حق علي عليه السّلام.

و هكذا نلاحظ استفاضة هذه الرِّوايات بحيث لا يمكن تجاهلها، أو اعتبارها أخبار آحاد كما يحاول البعض مناقشة المسألة في هذا الاتجاه‏ «2».

و قد يثور اعتراض على القول بأنَّ هذه الآية قد نزلت في الإشارة إلى ولاية علي عليه السّلام، بعدم وجود علاقة بينها بهذا المعنى، و بين الفقرات الأخرى السابقة و اللاحقة المتحدثة عما يحلّ و يحرم من اللحوم، الأمر الَّذي يبعد هذا التفسير لمصلحة التفسير الآخر بأنَّه إشارة إلى إكمال الفرائض و الحدود و الحلال و الحرام بالتنزيل في الوحي. و الجواب عن ذلك، أنَّ الآيات القرآنية لم تجمع على أساس النزول التاريخي، فقد نجد بعض الآيات المكيّة واردة في بعض السور المدنية، بل كانت تابعة للمناسبات الّتي لا حظها النبي صلى اللّه عليه و اله و سلّم الَّذي جمع القرآن بإشرافه، و ربَّما كانت المناسبة في الموضوع أنَّ الآية تتحدث عمّا شرعه اللّه في تفاصيل الأحكام الممثلة للدين، و لهذا من المناسب التحدث عن إتمام الدين الَّذي بدأ بالنبوّة، بقضيّة الولاية. و اللّه العالم.
______________________________
(1) انظر: الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير القرآن المنزل، مؤسسة البعثة، بيروت. ط: 1، 1413 ه، نقلا عن تفسير الأمثل، ج: 3، ص: 528.
(2) انظر: م. ن.، ج: 3، ص: 529.

تفسير من وحى القرآن، ج‏8، ص: 48

و من هنا اعتبرت قضية الولاية من القضايا المهمة المصيرية في مستقبل الإسلام و قوته، مما يؤكد و يؤيّد اعتبارها إكمالا للدين الّذي يحتاج إلى الرعاية من الشخص الّذي عاش فكره و شعوره و جهاده للإسلام، حتّى لم يعد هناك- في داخل ذاته- أيّ نوع من الفراغ الَّذي يحتضن اهتمامات غير إسلامية.

و قد يمكن للإنسان أن يفكر بأنَّ النبي صلى اللّه عليه و اله و سلّم لا يمكن له ترك قضية الولاية من بعده للاجتهادات المختلفة، الّتي قد تختلف على أسس ذاتية أو تقليدية، باعتبار أنَّها لا تخضع لبرنامج إسلامي تشريعيّ محدد. فالدين الَّذي قد تعرّض لكل شي‏ء في أحكامه و تشريعاته حتّى أدق التفاصيل، لا يتصور فيه أن يترك أمر الخلافة الكبير في أهميّته و نتائجه، لا سيما لجهة استمرار خط الرسالة و النبوة، حيث، و كما هو معلوم تاريخيا، لم يكن الوضع الإسلامي قد وصل إلى مستوى النضوج الكامل بفعل الأحداث الصعبة، مما يجعل تركيز مسألة الخلافة و الولاية و تأكيدها أمرا أساسيا في حركة التشريع.

و على أيّ حال، فإنَّنا نثير هذه الأفكار انطلاقا من و عينا لأهمية القيادة في حياة الأمة، ليكون هذا الاتجاه في التفكير أساسا للبحث من أجل مواجهة الموقف بجديّة و مسئوليّة من ناحية المبدأ و المنطلق. و يبقى للأدلة و الحجج و النصوص الشرعيّة الدور الأكبر الأساس في الحكم على ما حدث بعيدا عن كل اجتهاد ذاتي، أو انتماء مذهبي، لأنَّ القضيّة قضيّة إيمان و علم، فلا بدّ للمسلمين من الارتفاع في خلافاتهم إلى هذا المستوى الَّذي يقودهم إلى الحقيقة الدينيّة و التاريخيّة من أقرب طريق، و يعلمهم كيف يمارسون هذا الخلاف بالأسلوب الإسلامي للحوار الَّذي يعتمد على الإخلاص للحقيقة من خلال الإخلاص للّه، و مواجهة المواقف من موقع الفكر العميق المنفتح المتأمل، و اللّه من وراء القصد.

نسخه شناسی 

درباره مولف

کتاب شناسی

منابع: 

فضل الله سيد محمد حسين، تفسير من وحى القرآن‏، بيروت، دار الملاك للطباعة و النشر، 1419 ق‏، چاپ دوم‏، ج 8، صص 44 - 48