آیه 3، سوره مائده: التبيان فى تفسير القرآن

التبيان فى تفسير القرآن، ج‏3 ، ص  434   

و قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» نصب اليوم على الظرف.

و العامل فيه يئس ذو الفسق اليوم. و ليس يراد به يوماً. بعينه و معناه الآن يئس الذين كفروا من دينكم، كما يقول القائل: أنا اليوم قد كبرت، و هذا لا يصلح إلى اليوم يريد الآن.

و يئس على وزن فعل ييأس على وزن يفعل- بفتح العين، و روي بكسرها- و قيل: يئس على وزن لعب بكسر اللام، و العين- و ذكر يأيس.

و المعنى انا للَّه قد حول الخوف الذي كان يلحقكم منكم اليهم، و يئسوا من بطلان الإسلام، و جاءكم ما كنتم توعدون به من قوله، ليظهره على الدين كله.

و الدين اسم لجميع ما تعبد اللَّه به خلقه و أمرهم بالقيام به. و معنى يئس انقطع طمعهم من دينكم أن تتركوه، و ترجعوا منه إلى الشرك. و به قال ابن عباس و السدي و عطا.

و قيل: إن اليوم الذي ذكر هو يوم عرفة من حجة الوداع بعد دخول العرب كلها في الإسلام. ذهب اليه مجاهد، و ابن جريج و ابن زيد. و قيل: يوم جمعة، لما نظر

التبيان فى تفسير القرآن، ج‏3، ص: 435

النبي (صلى اللَّه عليه و آله) فلم ير الا مسلماً موحداً، أو لم ير مشركا.

و قوله: «فَلا تَخْشَوْهُمْ» هذا خطاب المؤمنين نهاهم اللَّه ان يخشوا و يخافوا من الكفار أن يظهروا على دين الإسلام، و يقهروا المسلمين و يردوهم عن دينهم، و لكن اخشوني و خافوني إن خالفتم امري و ارتكبتم معصيتي ان أحل بكم عقابي و أنزل عليكم عذابي و هو قول ابن جريج، و غيره.

و قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» في تأويله ثلاثة اقوال:

أحدها- قال ابن عباس، و السدي و اكثر المفسرين إن معناه أكملت لكم فرائضي و حدودي و أمري و نهي و حلالي و حرامي بتنزيلي ما أنزلت، و تبياني ما بينت لكم، فلا زيادة في ذلك، و لا نقصان منه بالمسخ بعد هذا اليوم.

و كان ذلك اليوم عام حجة الوداع قالوا: و لم ينزل بعد هذا على النبي (ص) شي‏ء من الفرائض في تحليل شي‏ء، و لا تحريمة و أنه (عليه السلام) مضى بعد ذلك بإحدى و ثمانين ليلة.

و هو اختيار الجبائي و البلخي، فان قيل: أ كان دين اللَّه ناقصاً في حال حتى أئمه ذلك اليوم؟ قيل: لم يكن دين اللَّه ناقصاً في حال، و لا كان إلا كاملا، لكن لما كان معرضاً للنسخ، و الزيادة فيه. و نزول الوحي لم يمتنع أن يوصف غيره بانه أكمل منه، حين أمن جميع ذلك فيه. و ذلك يجري مجرى وصف العشرة بأنها كاملة العدد، و لا يلزم أن توصف بأنها ناقصة، لما كان عدد المائة اكثر منها، و أكمل.

فكذلك ما قلناه. و قال الحكم و سعيد بن جبير و قتادة معناه أكملت لكم حجكم و أفردتكم بالبلد الحرام تحجون دون المشركين، و لا يخالطكم مشرك و هو الذي اختاره الطبري قال لان اللَّه قد انزل بعد ذلك قوله: «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ» و قال الفراء هي آخر آية نزلت. و هذا الذي ذكره لو صح لكان ترجيحاً لكن فيه خلاف. و قال الزجاج: معنى أكملت لكم الدين كفيتكم خوف عدوكم و أظهرتكم عليهم، كما تقول: الآن كمل لنا الملك. و كمل لنا ما نريد أي كفينا ما كنا نخافه.

و روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللَّه (ع) أن الآية نزلت بعد أن نصب النبي (ص) علياً علماً للامة يوم غدير خم منصرفة عن حجة الوداع، فانزل‏

التبيان فى تفسير القرآن، ج‏3، ص: 436

اللَّه يومئذ «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ».

و قوله: «وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» خاطب اللَّه (تعالى) جميع المؤمنين بأنه أتم نعمته عليهم باظهارهم على عدوهم المشركين، و نفيهم إياهم عن بلادهم، و قطعة طمعهم من رجوع المؤمنين، و عودهم إلى ملة الكفر، و انفراد المؤمنين بالحج و البلد الحرام.

و: قال ابن عباس و قتادة و الشعبي.

و قوله: «وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» معناه رضيت لكم الاستسلام لأمري و الانقياد لطاعتي على ما شرعت لكم من حدوده، و فرائضه و معالمه ديناً يعني بذلك طاعة منكم لي.

فان قيل: أو ما كان اللَّه راضياً الإسلام ديناً لعباده الا يوم أنزلت هذه الاية.

قيل: لم يزل اللَّه راضياً لخلقه الإسلام ديناً، لكنه لم يزل يصف نبيه محمد (صلى اللَّه عليه و آله) و أصحابه في درجات الإسلام، و مراتبه درجة بعد درجة، و مرتبة بعد مرتبة، و حالا بعد حال حتى أكمل لهم شرائعه و بلغ بهم أقصى درجاته، و مراتبه، ثم قال: حين أنزلت هذه الآية «وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» فالصفة التي لها اليوم و الحال التي أنتم عليها، فالزموه، و لا تفارقوه. قال ابن عباس و عمر و عامر الشعبي و قتادة، كان ذلك يوم الجمعة.

و قال الطاووس بن شهاب، و شهر ابن خوشب، و اكثر المفسرين نزلت هذه الآية يوم عرفة حجة الوداع.

و روى حنش عن ابن عباس، قال: ولد النبي (ص) يوم الاثنين، و خرج من مكة يوم الاثنين، و دخل المدينة يوم الاثنين، و أنزلت المائدة يوم الاثنين، و أنزلت‏ «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏ يوم الاثنين» و رفع الذكر يوم الاثنين.

و قال الربيع بن أنس: نزلت في المسير من حجة الوداع. و قوله: «فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ» معناه من دعته الضرورة في مجاعة لان المخمصة شدة ضمور البطن.
لا ثم أي غير مائل إلى إثم.

و المخمصة مفعلة، مثل المجنبة و المنجلة من خمص البطن و هو طيه، و اضطماره من الجوع، و شدة السغب ها هنا دون أن يكون مخلوقا كذلك. قال النابغة الدنباني‏

التبيان فى تفسير القرآن، ج‏3، ص: 437

في صفة امرأة بخمص البطن:
و البطن ذو عكن خميصٌ لين‏  و النحر ينفجه بثدي مقعد «1»
 و لم يرد بذلك وصفها بالجوع، لكن أراد وصفها بلطافة طيّ ما علا الا وراك و الأفخاذ من جسدها، لان ذلك المحمود من النساء. فاما الاضطمار من الضر فكقول أعشي ثعلبة.

تبيتون في المشي ملاءً بطونكم‏  و جاراتكم غبرٌ تبئنَ خماصاً «2»
يعني يبتن مضطمرات البطن من الجوع. و قال بعض نحوي البصريين:

المخمصة المصدر من خمصه الجوع. و غيره يقول: هو اسم للمصدر، و كذلك تقع المفعلة اسماً في المصادر للتأنيث، و التذكير: و الذي قلناه هو قول ابن عباس و قتادة و السدي و ابن زيد.

و قوله: «غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ» نصب على الحال. و المتجانف المتمايل للاثم المنحرف اليه. و معناه في هذا الموضع المعتمد له القاصد اليه من جنف القوم: إذا مالوا. و كل اعوج، فهو اجنف.

و المعنى فمن اضطر الى أكل الميتة، و ما عددّ اللَّه تحريمه عند المجاعة الشديدة غير متعمد الى ذلك، و لا مختار له، و لا مستحل له على كل حال، فان اللَّه أباحه له. تناول ذلك مقدار ما يمسك رمقه، لا زيادة عليه. و هو قول أهل العراق.

و قال أهل المدينة: يجوز أن يشبع منه عند الضرورة. و ما قلناه قول ابن عباس، و مجاهد و قتادة. قال قتادة: «غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ» أي غير عاص بان يكون باغياً أو محاربا أو خارجا في معصية. و قال ابن زيد: لا تأكل ذلك ابتغاء الإثم و لا جرأة عليه.

و قوله: «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» في الكلام متروك دلّ ما ذكر عليه، لان المعنى في اضطر في مخمصة الى ما حرمت عليه مما ذكرت في هذه الآية غير متجانف لإثم، فأكله لدلالة الكلام عليه.
و معنى‏ «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ان اللَّه لمن أكل ما حرمت عليهم بهذه الآية
______________________________
(1)- ديوانه: 66 و اللسان: (قعد). العكن: اطواء البطن. تنفجه: ترفعه.
(2) ديوانه: 109. و مجاز القرآن ا: 153.

التبيان فى تفسیر القرآن، ج‏3، ص: 438

أكله في مخمصة متجانف، لإثم غفور لذنوبه أي ساتر عليه أكله، و يعفو عن مؤاخذته به، و ليس يريد أن يغفر له عقاب ذلك، لأنه اباحه له، فلا يستحق عليه العقاب و هو رحيم أي رفيق بعباده. لان رحمته و رفقه أنه أباح لهم أكل ما حرم عليهم في حال الخوف على النفس و

روى المثنى قال: قلنا يا رسول اللَّه (ص) إنا بأرض يصيبنا فيها مخمصة، فما يصلح لنا من الميتة؟ قال: إذا لم تصطبحوا أو تعتبقوا أو تختفؤا بها بقلا، فشأنكم بها.

و قال الحسن: يأكل منها مسكته.

و ذكر في تختفئوا خمس لغات: تختفئوا بالهمزة و تختفوا- بحذفها- و تختفيوا- بقلبها ياء- و تختفوا و تخفوا- بالتخفيف- و الخفا أصل البردي كانوا يقشرونه و يأكلونه في المجاعة، فمع وجود ذلك لا يجوز أكل الميتة.

و قوله: «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» عقيب قوله: «فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ» لا يدل على ان له أن يعاقبهم على فعل المباح، لان الوجه في ذلك أنه أراد أن يصف نفسه بمغفرة الذنوب و سترها، و الصفح عنها ليدل بذلك على أنه أحرى ألا يؤخذ بفعل المباحات التي ليست بذنوب، كما قال: «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» فدل على أن ما يفعله من المغفرة أو العقوبة صواب و حكمة، ليكون أعم في الدلالة على استحقاقه الأوصاف المحمودة.

و أجاز بعضهم أن يكون ذلك ثواباً لبعض المكلفين قدمه كما انه يجوز ان تكون الحدود عقاباً لهم قدمه فلا شبهة في ذلك.

نسخه شناسی

درباره مولف

کتاب شناسی

منابع: 

طوسى، محمد بن حسن‏، التبيان فى تفسير القرآن، تحقيق: احمد قصيرعاملى‏، بيروت‏، دار احياء التراث العربى‏، چاپ اول‏، ج‏3 ، صص 438-434