آیه 3، سوره مائده : التفسير الموضوعى للقرآن الكريم

التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج‏7، ص: 105

هامة الغدير ذكرى تكميل الدين: من كنت مولاه فهذا علي مولاه ...
«الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «2».

«الْيَوْمَ» وما أدراك ما ذلك اليوم، فقد اختلفت الأمة الإسلامية في «ما هو ذلك اليوم» فعلينا البحث والتنقير في ظلال الآية نفسها- وبضمنها الروايات- حتى نعرف بيقين وإتقان يوم السلب والإيجاب، سلباً لأطماع الذين كفروا من دينكم، وإيجاباً هو إكمال الدين وإتمام النعمة لكم.

«الْيَوْمَ» هنا حسب الظاهر وقية وحدة الصيغة هو يوم واحد حصلت فيه أربعة أمور هامة لم تكن تحصل من ذي قبل، مهما أعدَّت معداته:

1- «يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ..» 2- «أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» 3- «وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» 4- «وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً».
فهنا بين الأركان الأربعة يتقدم جانب السلب: «يَئِسَ ..» على مثلث الإيجاب في هندسة عمارة الدولة الإسلامية السامية بقيادتها الروحية والزمنية.
فما لم ييأس الذين كفروا من دينكم ليس له كمال ولا لنعمته تمام ولا لأصله رضىً، إذاً فهذه الأضلاع ترسم‏ «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» في حاكمية «اللَّه» منذ ذلك اليوم كما يرضاه اللَّه.

إن قضية إكمال الدين وإتمام النعمة بعد يأس الذين كفروا من دينكم، أن يكون ذلك اليوم من أخريات أيام الرسول صلى الله عليه و آله أحيانَ كان يودِّع المسلمين وينفض يديه من بلاغ الإسلام، إذاً فالآية هي من أخريات الآيات الرسالية النازعة عليه، يوم لم يبق له من أصل‏
______________________________
(1). (21 ح/ 568)
(2). 5: 3

التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج‏7، ص: 106

الدين بوصله وفصله أية هامة «1».
فهل يعني- بعد- يوم ابتعاث الرسول صلى الله عليه و آله؟ ولم يكن يومئذ لهم دين حتى يُكمل به إلا الشرك، ولم ييأس‏ «الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ»- لو كان لهم دين- منذ بزوغه، بل كانت لهم أطماع شاسعة متوسعة لاستئصاله، لا سيما وأن الرسول صلى الله عليه و آله لم يكن له ولد من الذكران!، أو أنه فتح مكة المكرمة كما وعده اللَّه له:

«إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً. وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً» فهنالك إتمام النعمة وإكمال الدين ب «يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ» كما فيه‏ «يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» ب «وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً».

فقد رجعت بذلك الفتح المبين عاصمةُ التوحيد ومهبط الوحي الأمين إلى الرسول الأمين صلى الله عليه و آله، ولكن ليس ذلك الفتح بمجرده مما يؤيِس الذين كفروا- ككل- من دينكم، كما وأنه بينه وبين رحلته صلى الله عليه و آله سنتين وقد نزلت فيها آيات تحمل أحكاماً أخرى وتوجيهات، كما و «ليتم وينصر» بشارة للمستقبل وليس فتح مكة إلا تقدمة له وذريعة، وبذلك يعرف- وبأحرى- أنه ليس- كذلك- يوم عرفة، ولا يوم نزول البراءة وما أشبه فإن يوماً من هذه لم يكن ليُؤيس الذين كفروا من دينكم حتى يكمل ويتم النعمة تماماً وكمالًا.

أوَ ترى أنه يوم إكمال الدين بأصوله؟ وقد ابتدأ بها صاحب الرسالة لزاماً وعاشها طول حياته مكرراً إياها مؤكداً لها! ولم تكن- كذلك- تؤيس الذين كفروا.

أو أنه يوم ختام القرآن؟ ولم يختم إلا عند ختام عمره الشريف إذ لم ينقطع عنه الوحى‏
______________________________
(1). عن المناقب الفاخرة للسيد الرضي رحمه اللَّه عن محمد بن إسحاق عن أبي جعفر عن أبيه عن جده عليهم السلام قال: لما انصرف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من حجة الوداع نزل أرضاً يقال له: ضوجان فنزلت هذه الآية «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ...» فلما نزلت عصمته من الناس نادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس إليه وقال: من أولى منكم بأنفسكم؟ فضجوا بأجمعهم فقالوا: اللَّه ورسوله، فأخذ بيد علي بن أبي طالب عليه السلام وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأنصر من نصره وأخذل من خذله لأنه مني وأنا منه وهو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وكانت آخر فريضة فرضها اللَّه تعالى على أمة محمد صلى الله عليه و آله ثم أنزل اللَّه تعالى على نبيه‏ «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً»

التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج‏7، ص: 107

المنيف، ثم وليس ختام الوحي بالذي يؤيس الذين كفروا من دينكم، بل قد يُطَمئِنهم لإبطاله لانقضاء وحيه!، فإن مستمر الوحي أرجى، وهو بإياس الذين كفروا أجحى.
أم ترى أنه يوم إكماله بفروعه، يوم نزلت الآية نفسها؟ فكذلك الأمر!

إضافة إلى أن تحريم ما حرم هنا له سوابق سوابغ، فلم تكن نازلة جديدة، أو جادَّة تُؤيس الذين كفروا، ثم أتت أحكام أخر وتوجيهات لم تأت من ذي قبل!. إنه يوم بلاغ إستمرارية ذلك الدين المتين بقيادتيه الروحية والزمنية فيمن يمثلون الرسول الأمين، كما وأن ذلك البلاغ في آية البلاغ يقرر له هامة الحفاظ «1» على استمرارية هذا الدين: و «إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ..».
إذاً فذلك اليوم هو يوم بلاغ لما يؤيد الرسالة ببلاغها بعد إكمال الدين وإتمام النعمة في الشرعة بأصولها وفروعها، وما هو الإبلاغ إستمرارية الحكم الرسالي القرآني بمن ينذر به وهو يمثل الرسول صلى الله عليه و آله فيما كان يفعل أو يقول على طول خط الرسالة إلى يوم الدين.

وهنا نجد إصفاقاً شاملًا في روايات الفريقين على نزول هذه الآية يوم الغدير بعد إصحار النبي صلى الله عليه و آله بولاية الأمر- كنموذح أوّل بعده- لعلي أمير المؤمنين.
ذلك وكما هو مأثور عن أصحاب الآثار أنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه و آله لم يعمر بعدها إلا أحداً وثمانين يوماً أو إثنين وثمانين‏ «2».

فالدين وهو النعمة الربانية- ولا سيما ذلك الأخير- ليس ليتم إلا بقرار حاسم جاسم في نفسه لاستمراريته في قيادتيه الروحية والزمنية، فليست الأصول والفروع بنفسها بالتي تستمر لولا من يطبقها على ضوء الدولة الربانية الحاكمة الحكيمة بين المكلفين، كما
______________________________
(1). في الخصائص عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام قالا: لما نزلت هذه الآية (آية التبليغ) يوم الغدير وفيه نزلت: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ... قال وقال الصادق عليه السلام: أي: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏ بإقامة حافظه‏ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي‏ أي: بولايتنا، وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً أي: تسليم النفس لأمرنا
(2). في التفسير الكبير للرازي 3: 529 عن أصحاب الآثار ... وعينه أبو السعود في تفسيره بهامش تفسير الرازي 3: 525، وذكر المؤرخون منهم- كما في تاريخ الكامل 3: 134 وأمتاع المقريزي 548 وتاريخ ابن كثير 6: 332 وعده مشهوراً والسيرة الحلبية 3: 382- أن وفاته صلى الله عليه و آله في الثاني عشر من ربيع الأول، مهما كان فيه تسامح بزيادة يوم على الإثنين والثمانين‏

التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج‏7، ص: 108

ولا تفيد الدولة والنظام لولا تمام الإنتظام لشرعة اللَّه، فقد تجاوب الأمران يوم الغدير، حين لم يبق من الدين أمر إلَّا وقد بيّن، اللهم إلا استمراريته المفروضة يوم الغدير صراحاً جمعيّاً لم يحصل من ذي قبل مهما كانت له لمحات في فترات.

ولا يعني يوم الغدير- فقط- تأمير الأمير عليه السلام، فإنما هو كنقطة إنطلاق لتلك الخلافة القدسية المعصومة الناهية إلى صاحب الأمر الحجة بن الحسن المهدي عجل اللَّه تعالى فرجه الشريف الذي به يملاء اللَّه الأرض قسطاً وعدلًا بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، فقد صدق قول الرسول صلى الله عليه و آله: «يوم غدير خم أفضل أعياد أمتي».

وإمرة صاحب الأمر لها النصيب الأوفر من ذلك المربع لهندسة الإسلام، لأن الائمة الإحدى عشر قبله لم تتح لهم فُرَص الإمرة بما اغتصبت حقوقهم. وقد «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‏ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً» «1» «وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ. إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ. وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» «2».

ذلك وقد تصافقت روايات الفريقين أن الآية نزلت يوم الغدير حيث بلغ الرسول صلى الله عليه و آله إمرة الأمير بعدما نزلت آية التبليغ، وممن رواه بعد إجماع أئمة أهل البيت عليهم السلام في روايته- أبو سعيد الخدري‏ «3» وابن عباس‏ «4» وجابر «5» وأبو هريرة «6» وسعيد بن سعد بن مالك الخدري‏
______________________________
(1). 24: 55
(2). 21: 107
(3). مما روي عن أبي سعيد الخدري ما رواه الحافظ ابن مردويه من طريق أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم غدير خم حين قال‏لعلي: من كنت مولاه فهذا علي مولاه ثم رواه عن أبي هريرة أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة يعني مرجعه صلى الله عليه و آله من حجة الوداع (تفسير ابن كثير 3: 14) والسيوطي في الدر المنثور 3: 259 أخرج ابن مردوية وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: لما نصب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله علياً عليه السلام يوم غدير خم فنادى له بالولاية هبط جبرئيل عليه بهذه الآية «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ...».
وفيه أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مثله وفي آخره: فنزلت‏ «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ...» فقال النبي: «الله أكبر ...» و نقله بهذا اللفظ الأربيلي في كشف الغمة (95)
(4). الثعلبي في تفسيره عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس روى قصة الغدير
(5). أبو الفتح النطنزي في كتابه الخصائص العلوية عن الخدري وجابر الأنصاري أنهما قالا: لما نزلت: اليوم أكملت .. قال النبي صلى الله عليه و آله: اللَّه أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي وولاية علي بن أبي طالب عليه السلام، وأبو حامد سعد الدين الصالحاني قال شهاب الدين أحد في توضيح الدلائل على ترجيح الفضائل-: وبالإسناد المذكور عن مجاهد قال لمانزلت هذه الآية بغدير خم فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وذكر مثله‏
(6). ومما روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله أنه قال: من صام يوم ثمان عشر من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً وهو يوم غدير خم لما أخذ النبي صلى الله عليه و آله بيد علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: ألست أولى بالمؤمنين؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: من كنت مولاه فعلي مولاه فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم فأنزل اللَّه الآية ..

التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج‏7، ص: 109

والبراء بن عازب‏ «1» وزيد بن أرقم‏ «2» أخرجه ورواه عنهم عدد كثير من التابعين وتابعي التابعين والمصنفين والمفسرين.
وحق لرسول الهدى صلى الله عليه و آله أن يقول قوله حين نزول الآية: «اللَّه أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي بن أبي طالب».

وترى أن‏ «الْيَوْمَ يَئِسَ .. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ...- إلى- دِيناً» هل هي آية مستقلة تنزيلًا ثم توسط هذه الآية تأليفاً؟ أم هي هيه تنزيلًا وتأليفاً؟ فما هي الصلة بينها وبين ما احتفت بها من قبل ومن بعد؟!.
إن الأصل المعني من القرآن هو تأليفه، فإنه هو الأليف الصائب بوحي اللَّه تعالى حيث يراه انسب ما يصح ويمكن من تأليف الوحي النازل نجوماً منفصلة لفظياً ومعنوياً.

فقد تناسب مناسبة حقة حقيقية ناصيةَ السورة «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فإن عقد الولاية المستمرة المحمدية في أهل بيته عليهم السلام هو من أهل العقود. فلقد توسطت آية إكمال الدين وإتمام النعمة كشطر آية هنا، جمعاً بين العقود العقيدية والسياسية الصالحة والعقود العملية، فإن عقود الشرعة الربانية هي كلٌّ لا تتجزأ، كلٌّ متكامل متجاوب كلبنات بناية واحدة مهما اختلفت شكليات.

فهنا سواء في واجب الوفاء بالعقود ما يختص بالتصور والعقيدة والعقلية الإيمانية.
______________________________
(1). الثعلبي في تفسيره عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال لما اقبلنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حجة الوداع كنا بغديرخم فنادى أن الصلاة جامعة ... وروى قصة الغدير
(2). وممن أخرجه عنه الثعلبي في تفسيره ونقل جملة من قصة الغدير ومنها فلقيه عمر فقال: هنيئاً لك يا بن أبي طالب أصحبت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة

التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج‏7، ص: 110

شعوراً، وما يختص بالعبادات شعاراً وغير شعار، أو يختص بالحلال والحرام بين شعور وشعار، وما يختص بالتنظيمات الإجتماعية كعقد الولاية الرسالية بعد الرسول صلى الله عليه و آله، جمعاً بين الواجبات النفسية والبدنية، رعاية لمجمع الإنسانية: النفس والبدن.

ثم كما الإضطرار في مخمصة بدنية وهي الجوع القارع يسمح لأكل ما حرم من الميتة وما أشبه قدر الضرورة المبقية لحياة.

كذلك الإضطرار في مخمصة نفسية يسمح في القعود عن تحقيق لإقامة القيادة الروحية والزمنية- مستمرةً- بعد النبي صلى الله عليه و آله.
وترى المسلمين إضطروا في مخمصة في تنحِّيهم عن تطبيق واجب الخلافة الإسلامية في علي وولده المعصومين عليهم السلام؟!.

أولم يتجانفوا لإثم في مأثمة غصب الخلافة الحقة التي هي رمز ليأس لذين كفروا من دينكم وإكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب بإسلامنا؟.
فهل إن إسلام الإستسلام أمام السلطات الجائرة زمن المعصومين عليهم السلام وبعدهم، ذلك إسلام مرضي لرب العالمين، فالذين كفروا يائسون من القضاء عليه وإضعافه واستضعاف المسلمين العائشين تحت أنياره؟! وهل إن ذلك من إكمال الدين وإتمام النعمة أن يعيش المسلمون تحت وطأة الإستعمار الإستثمار الإستحمار الإستكبار الإستبداد الإستخفاف الإستضعاف؟!.

يعيشون بين هذه الأبواب الجهنمية يمينية ويسارية متخلفة عن الشجرة الزيتونة المحمدية التي هي لا شرقية ولا غربية؟!.

«الْيَوْمَ» يوم الغدير، الذي بلغ فيه البشير النذير، إستمرارية القيادة الإسلامية السامية في الصالحين من أمته، معصومين زمَنَهم، والربانيين من علماء الأمة زمن الغيبة.
«الْيَوْمَ» هو اليوم الذي فيه‏ «يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» يئسوا من زواله واضمحلاله، حيث اجتمع إلى كماله في نفسه وتمام النعمة فيه، ما بالإمكان أن يدير رحى المجتمعات البشرية مهما طالت وكثرت.

التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج‏7، ص: 111

إجتمع إلى ذلك بقاء واستمرار قيادته الروحية والزمنية، فإن رمز استمراره وتحليقه- يوماً مّا- على ربوع الإنسانية جمعاء، فدور الخلافة المعصومة يجمع في نفسه تبيين القرآن والسنة ما لم يكن ليبيَّن زمن الرسول صلى الله عليه و آله إلا لأبواب مدينة علمه كعلي وفاطمة عليهما السلام وولدهما الأحد عشر (ع)، إضافة إلى القيادة الرسالية التي كان يحملها الرسول صلى الله عليه و آله ومن ثم دور الغيبة الكبرى المتوسطة بين عصر الحضور حيث يقوده العلماء الربانيون على ضوء الكتاب والسنة.

فدور التبيين مكمِّل لدور التشريع في بعدين اثنين، فلم يكن الدين مكمَّلًا، والنعمة متمَّمة، والإسلام مرضياً، إلّا بهذه الإستمرارية السامية.

صحيح أن الرسول صلى الله عليه و آله كان يبيّن الخلافة المعصومة أحياناً كثيرة، ولكنها لم تكن تعدو أجواء خاصة ولأشخاص خصوص، فأين هي وأين البلاغ في جو الغدير بتلك الصورة الوضاءة الهامة التي جلبت أنظار الحاضرين الذين كانوا هم خاصة المسلمين في عصر النبي صلى الله عليه و آله وكلاسة عن جمعهم أجمعين.

ذلك هو إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب لنا إسلامنا- لو حلق في إستمراره على كل التاريخ الإسلامي المجيد-!.

والقول إن التارك لما هو إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب- وهو أهم من أصل الدين- أحرى أن يسمى كافراً أو مرتداً ممن ترك فرعاً من الدين، مردودٌ بأن الترك واقعياً ليس كفراً ولا إرتداداً، إنما هو الرد على اللَّه ورسوله عقيدياً اظهاراً باللسان أو أياً كان فالمنافق ما لم يظهر تكذيباً للدين يعتبر مسلماً، والمؤمن إذا أظهر تكذيباً كان مرتداً، فالذين تركوا تحقيق الولاية قاصرين أو مقصرين هم أولاءِ مسلمون كسائر المسلمين، اللهم إلّا من صرح بتكذيب الرسول فيما كان يفعل أو يقول، فأمّا المأوِّل لقوله قاصراً أو مقصراً تبريراً لواقع اتجاهه فلا يعد مرتداً أو كافراً، وإلا لم يبق من المسلمين إلّا نزر قليل.
فالشرعة التي تزول وتذبل بموت حاملها الأول لا يخشى منها مهما كانت كاملة، فكل نظام قانوني صالح بحاجة لاستمراره إلى صالح التطبيق الجماهيري الذي لا يصلح إلا

التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج‏7، ص: 112

تحت رعاية حاكمية قديرة حكيمة، فبفساد كلٍّ من القانون والحاكم به يموت أو يضعف القانون، فضلًا عن فسادهما مع بعض.
وكما أن‏ «بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ» ضمان للعزة كذلك‏ «حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ» كما «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ» وهكذا نؤمر في‏ «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً» أن نؤسِّس جمعية الإعتصام الصالح بحبل اللَّه حتى نُعتَصم من بأس الكافرين.

ف «الَّذِينَ كَفَرُوا» ككل، أياً كانوا وأيان لا ييأسون من ديننا ان يزول بنفسه أو يُزال إلّا بانضمام إستمرارية القيادة الصالحة إلى صالح القانون وهو القرآن، فما دامت الحاكمية الطليقة للقرآن بالحكام الصالحين على ضوءه فالذين كفروا هم في إياس مطلق مطَبق، وكما يئسوا في الدولة الأولى الإسلامية التي أسسها الرسول صلى الله عليه و آله مهما اختلفت الدرجات، ومن ثم لما نقضوا عهد الخلافة الصالحة إلى الخلافة الطالحة طمع الذين كفروا في ديننا حتى آل أمرنا إلى ما آل.

ذلك! ومن أبرز ملامح الضرورة القيادية الصالحة لتطبيق القرآن أننا لا نجد «يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بصورة مطلقة مطبقة إلَّا «الْيَوْمَ» وهو يوم قرار الإستمرار للدولة المحمدية صلى الله عليه و آله، المبيّن فيه الكتاب والسنة بصورة عاصمة معصومة.

صحيح أن الذين كفروا لا يستطيعون على أية حال أن ينقضوا ديننا أو أن ينقصوا منه ببرهان، ولكنهم يحاولون في إبعاد المسلمين عن القرآن، وزعزعة إيمانهم وإيقانهم بهذا الدين المتين لولا السلطة الروحية والزمنية القرآنية على طول الخط.

فالدعايات المضلِّلة من الذين كفروا وسائر المحاولات الشريرة ودوائر السوء المختلفة، المتربصة بالذين آمنوا، لا تزال مستمرة حتى يجعلوا الدين في عزلة بعيدة عن أهله، رغم نصوع براهينه وسطوع مضامينه.
كما وأن الهجمات الحربية المتواصلة منهم تحتل أراضينا وأنفسنا «إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ».
ف «لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ» لا تخاطب‏

التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج‏7، ص: 113

إلَّا المعتصمين بحبل اللَّه المطبقين شِرعة اللَّه، المجاهدين في سبيل اللَّه، المضحِّين في الحفاظ على حرمات اللَّه، كما سبقت هذه الشروطات في‏ «لَنْ يَضُرُّوكُمْ».

فليس صالح الدين بنفسه مما يؤيس الكافرين تمام الإياس وزوال الإبلاس من ديننا، إنما هو صالح تطبيقه بالقيادات الصالحة الروحية والزمنية، وكما في حديث الصادقين عليهما السلام تفسيراً للآية، أي أكملت لكم دينكم بإقامة حافظة ..» «1».

فالحافظ القيادي للدين دوره كالحافظ الأصلي لمادة الدين، فبكمال القيادة الروحية والزمنية التطبيقية للدين ييأس الذين كفروا من زواله أو إزالته، وبضعفها كضعفه نفسه يأمل الذين كفروا زواله أو إزالته من الدور الجماعي.
و «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا» هو يوم قرار القيادة المعصومة، استمرارية للقيادة العليا الرسولية التي تحمله الرسالة، معصومين وهم الاثنى عشر، ومن يتلو تلوهم كالعلماء الربانيين زمن الغيبة الكبرى لآخرهم المنتظر المأمول.

إذاً «فَلا تَخْشَوْهُمْ» أن يزيلوا هذا الدين ما دامت قواعده سليمة «وَ اخْشَوْنِ» أن تتخلفوا عن قيادته الروحية والزمنية العليا تأسيساً لها واتباعاً إياها وتحقيقاً للدين بكل أبعاده، فإبعاده لكل العراقيل الكافرة الشاغرة.
لذلك لم ييأس الذي كفروا من ديننا في أي يوم من أيام هذه الرسالة السامية يأساً شاملًا إلا يوم إذاعة الاستمرارية لها بالخلافة المعصومة العاصمة لها، مهما اغتصبت لردح بعيد من الزمن، ولكن بنية الرسالة المستمرة على مر الزمن بذلك القرار الحاسم، إنها تؤيس الذين كفروا من زوالها أو إزالتها.

وعلى الذين آمنوا طول الزمن الرسالي تقبّل القيادة المعصومة، ثم في زمن غياب العصمة انتخاب النخبة العليا من العلماء الربانيين ليقودوا الأمة الإسلامية سالمة سليمة.

ذلك، فالإثم في تأخر المسلمين عن تأسيس دولتهم الإسلامية الموحدة السامية إنما هو على المتجانفين لتركه، المتكاسلين عن محاولته، المستسلمين- دوماً- للأمر الواقع‏
______________________________
(1). الخصائص عن الصادقين عليه السلام‏

التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج‏7، ص: 114

الشرير.
كما وأن قسماً منهم خيِّل إليهم أن القيام لتأسيس دولة الإسلام وطرد الظلم إنما هو على عاتق صاحب الأمر عليه السلام وأما نحن مدى غيابه عليه السلام فعلينا أن نتقاعد مكتوفي الأيدي، رغم الأوامر المؤكدة المشددة القرآنية المشدودة لإقامة الدين، وقصم شوكة المعتدين المغتصبين، وبسط المعروف وإزالة المنكر قدر المستطاع، مهما كان تأسيس الدولة العالمية الإسلامية في أصلها على عاتق صاحب الأمر عجل اللَّه تعالى فرجه وسهل مخرجه.

وإذاً «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ» على دينكم وعلى أنفسكم، بل في التخلف عن إقامة ما يؤيس الذين كفروا فاستضعافاً للدينين واستخفافاً بالدين ومواصلة بكل المحاولات في سحقهم ومحقهم، وترى‏ «رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» يعني- فقط- هذه الشرعة بطقوسها؟ وكثيرون هؤلاء الذين يطبقون طقوسها وهم غير مرضيين اللَّه! ...

«الْإِسْلامَ» هو إسلام الوجه للَّه، ومنه الإسلام لما حصل يوم إكمال الدين وإتمام النعمة وهو تأمير الأمير بإمرة المؤمنين عليه السلام وتقبُّل إستمرارها إلى يوم الدين.

ف «دِيناً» تعني طاعة طليقة للَّه، والإسلام السليم هو الطاعة المرضية للَّه‏لا سواه، فالإسلام الخاوي عن القيادة المستمرة السليمة إسلام غير مرضي، وقد يصبح كالكفر أو أنحس منه، فمثلث إكمال الدين وإتمام النعمة والرضى عن الإسلام بعد «يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا» يشكِّل القواعد الأربع لعز الإسلام وسيادته، فليس اليأس إلَّا لهذه الثلاث.

ولأن آيتي التبليغ والإكمال مرتبطتان مع بعض حيث تحملان أمر الإمرة الإسلامية بعد الرسول صلى الله عليه و آله، إذاً فروايات الغدير البالغة إلى مئآت تعتبر من روايات مؤيدة لنزول آية الإكمال بشأن الغدير «1».
______________________________
(1). روات الغدير من الصحابة- حسب ما في الغدير- مائة وعشرة، شخصاً، ومن التابعين أربع وثمانون، وطبقات الروات العلماء (360) شخصاً في القرون الإسلامية، والمؤلفون (26) شخصاً والمناشدات به والإحتجاجات إثنان وعشرون (الغدير للعلامة الأميني 1: 14- 213)

التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، ج‏7، ص: 115

ذلك، وليأس الذين كفروا من دينكم مراحل أخراها بتامِّ اليأس وطامِّه الجمعُ بين إكمال الدين وإتمام النعمة بمثلث عمارة الإسلام العامرة: 1- كمال قوانينه الصالحة الإنطباق في كل عصر ومصر، 2- كمال الزعامة الدينية روحية وزمنية، 3- وكمال المؤمنين به إئتماماً بأئمة الإسلام، وتطبيقاً عميقاً للإسلام، وكل ذلك في الوسط القرآني العظيم، فإنه المحور الأصيل لهذه الزوايا الثلاث.

ذلك اليأس يحلِّق على الذين كفروا في الطول التاريخي والعرض الجغرافي، ولذلك يحاولون في هدم مثلثه، مركِّزين على تنحية القرآن عن الوسط الإسلامي.
ومهما يكن من شي‏ء فقد تكفي بالمآل إمرة صاحب الأمر لتحقيق ذلك اليأس بأعماقه.

نسخه شناسی 

درباره مولف

کتاب شناسی

منابع: 

صادقى تهرانى، محمد، التفسير الموضوعى للقرآن الكريم‏، قم، دفتر مولف‏، چاپ اول‏، ج 7، صص 105 - 115