آیه 3، سوره مائده : الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏8 ، ص  67  

... الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏ 3.

«اليوم» و ما أدراك ما ذلك اليوم، فقد اختلفت الأمة الإسلامية في «ما هو ذلك اليوم» فعلينا البحث و التنقير في ظلال الآية نفسها- و بضمنها الروايات- حتى نعرف بيقين و إتقان يوم السلب و الإيجاب، سلبا لأطماع الذين كفروا من دينكم، و إيجابا هو إكمال الدين و إتمام النعمة لكم.

«اليوم» هنا حسب الظاهر و قضية وحدة الصيغة هو يوم واحد حصلت فيه أربعة أمور هامة لم تكن تحصل من ذي قبل، مهما أعدّت معداته:

1 «يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ..» 2 «أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» 3 «وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» 4 «وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً».
فهنا بين الأركان الأربعة يتقدم جانب السلب: «يئس ...» على مثلث الإيجاب في هندسة عمارة الدولة الإسلامية السامية بقيادتها الروحية و الزمنية.
فما لم ييأس الذين كفروا من دينكم ليس له كمال و لا لنعمته تمام و لا لأصله رضى، إذا فهذه الأضلاع ترسم‏ «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» في حاكمية «اللّه» منذ ذلك اليوم كما يرضاه.

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏8، ص 68

إن قضية إكمال الدين و إتمام النعمة بعد يأس الذين كفروا من دينكم، أن يكون ذلك اليوم من أخريات أيام الرسول (ص) أحيان كان يودّع المسلمين و ينفض يديه من بلاغ الإسلام، إذا فالآية هي من أخريات الآيات الرسالية النازلة عليه، يوم لم يبق له من أصل الدين بوصله و فصله أية هامة «1».

فهل يعني- بعد- يوم ابتعاث الرسول (ص)؟ و لم يكن يومئذ لهم دين حتى يكمل به إلا الشرك، و لم ييأس‏ «الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ»- لو كان لهم دين- منذ بزوغه، بل كانت لهم أطماع شاسعة متوسعة لاستئصاله، لا سيما و أن الرسول (ص) لم يكن له ولد من الذكران!، أو أنه فتح مكة المكرمة كما وعده اللّه له: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً. وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً» فهنالك إتمام النعمة و إكمال الدين ب «يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ» كما فيه‏ «يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» ب «وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً».

فقد رجعت بذلك الفتح المبين عاصمة التوحيد و مهبط الوحي الأمين إلى الرسول الأمين (ص)، و لكن ليس ذلك الفتح بمجرده مما يؤيس الذين كفروا- ككل- من دينكم، كما و أن بينه و بين رحلته (ص) سنتين و قد نزلت فيها آيات تحمل أحكاما أخرى و توجيهات، كما و «ليتم و لينصر»
______________________________
(1).
عن المناقب الفاخرة للسيد الرضي رحمه اللّه عن محمد بن إسحاق عن أبي جعفر عن أبيه عن جده عليهم السلام قال: لما انصرف رسول اللّه (ص) من حجة الوداع نزل أرضا يقال له: ضوجان فنزلت هذه الآية «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ...» فلما نزلت عصمته من الناس نادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس إليه و قال: من أولى منكم بأنفسكم؟ فضجوا بأجمعهم فقالوا: اللّه و رسوله، فأخذ بيد علي بن أبي طالب (ع) و قال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و أنصر من نصره و أخذل من خذله لأنه مني و أنا منه و هو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي و كانت آخر فريضة فرضها اللّه تعالى على أمة محمد (ص) ثم أنزل اللّه تعالى على نبيه‏ «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً».

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏8، ص 69

بشارة للمستقبل و ليس فتح مكة إلا تقدمة له و ذريعة، و بذلك يعرف- و بأحرى- أنه ليس- كذلك- يوم عرفة، و لا يوم نزول البراءة و ما أشبه فإن يوما من هذه لم يكن ليؤيس الذين كفروا من دينكم حتى يكمل و يتم النعمة تماما و كمالا.

أو ترى أنه يوم إكمال الدين بأصوله؟ و قد ابتدأ بها صاحب الرسالة لزاما و عاشها طول حياته مكررا إياها مؤكدا لها! و لم تكن- كذلك- تؤيس الذين كفروا.

أو أنه يوم ختام القرآن؟ و لم يختم إلا عند ختام عمره الشريف إذ لم ينقطع عنه الوحي المنيف، ثم و ليس ختام الوحي بالذي يؤيس الذين كفروا من دينكم، بل قد يطمئنهم لإبطاله لانقضاء وحيه!، فإن مستمر الوحي أرجى، و هو بإياس الذين كفروا أجحى.

أم ترى أنه يوم إكماله بفروعه، يوم نزلت الآية نفسها؟ فكذلك الأمر! إضافة إلى أن تحريم ما حرم هنا له سوابق سوابغ، فلم تكن نازلة جديدة، أو جادّة تؤيس الذين كفروا، ثم أتت أحكام أخر و توجيهات لم تأت من ذي قبل!. إنه يوم بلاغ استمرارية ذلك الدين المتين بقيادتيه الروحية و الزمنية فيمن يمثلون الرسول الأمين، كما و أن ذلك البلاغ في آية البلاغ يقرر له هامة الحفاظ «1» على استمرارية هذا الدين: و «إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ..».
إذا فذلك اليوم هو يوم بلاغ لما يؤيد الرسالة ببلاغها بعد إكمال الدين‏
______________________________
(1).
في الخصائص عن الإمامين الباقر و الصادق عليهما السلام قالا: لما نزلت هذه الآية (آية التبليغ) يوم الغدير و فيه نزلت: اليوم أكملت ...
قال و قال الصادق (ع): أي: اليوم أكملت لكم دينكم بإقامة حافظه و أتممت عليكم نعمتي أي: بولايتنا، و رضيت لكم الإسلام دينا أي:
تسليم النفس لأمرنا.

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏8، ص 70

و إتمام النعمة في الشرعة بأصولها و فروعها، و ما هو الإبلاغ استمرارية الحكم الرسالي القرآني بمن ينذر به و هو يمثل الرسول (ص) فيما كان يفعل أو يقول على طول خط الرسالة إلى يوم الدين.
و هنا نجد إصفاقا شاملا في روايات الفريقين على نزول هذه الآية يوم الغدير بعد إصحار النبي (ص) بولاية الأمر- كنموذح أوّل بعده- لعلي أمير المؤمنين.

ذلك و كما هو مأثور عن أصحاب الآثار أنه لما نزلت هذه الآية على النبي (ص) لم يعمر بعدها إلا أحدا و ثمانين يوما أو إثنين و ثمانين‏ «1».

فالدين و هو النعمة الربانية- و لا سيما ذلك الأخير- ليس ليتم إلا بقرار حاسم جاسم في نفسه لاستمراريته في قيادتيه الروحية و الزمنية، فليست الأصول و الفروع بنفسها بالتي تستمر لولا من يطبقها على ضوء الدولة الربانية الحاكمة الحكيمة بين المكلفين، كما و لا تفيد الدولة و النظام لولا تمام الانتظام لشرعة اللّه، فقد تجاوب الأمران يوم الغدير، حين لم يبق من الدين أمر إلّا و قد بيّن، اللهم إلا استمراريته المفروضة يوم الغدير صراحا جمعيّا لم يحصل من ذي قبل مهما كانت له لمحات في فترات.

و لا يعني يوم الغدير- فقط- تأمير الأمير عليه السلام، فإنما هو كنقطة انطلاق لتلك الخلافة القدسية المعصومة الناهية إلى صاحب الأمر الحجة بن الحسن المهدي عجل اللّه تعالى فرجه الشريف الذي به يملأ اللّه الأرض قسطا و عدلا بعد ما ملئت ظلما و جورا، فقد صدق‏
قول الرسول (ص):
______________________________
(1). في التفسير الكبير للرازي 3: 529 عن أصحاب الآثار ... و عينه أبو السعود في تفسيره بهامش تفسير الرازي 3: 525، و ذكر المؤرخون منهم- كما في تاريخ الكامل 3: 134 و أمتاع المقريزي 548 و تاريخ ابن كثير 6: 332 و عدّه مشهورا و السيرة الحلبية 3: 382- أن وفاته (ص) في الثاني عشر من ربيع الأول، مهما كان فيه تسامح بزيادة يوم على الإثنين و الثمانين.

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏8، ص 71

«يوم غدير خم أفضل أعياد أمتي».
و إمرة صاحب الأمر لها النصيب الأوفر من ذلك المربع لهندسة الإسلام، لأن الائمة الإحدى عشر قبله لم تتح لهم فرص الإمرة بما اغتصبت حقوقهم.

و قد وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‏ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً (24: 55) «وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ. إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ. وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ.» (21: 107).

ذلك و قد تصافقت روايات الفريقين أن الآية نزلت يوم الغدير حيث بلغ الرسول (ص) إمرة الأمير بعد ما نزلت آية التبليغ، و ممن رواه- بعد إجماع أئمة أهل البيت عليهم السلام في روايته- أبو سعيد الخدري‏ «1» و ابن عباس‏ «2» و جابر «3» و أبو هريرة «4» و سعيد بن سعد بن مالك الخدري‏
______________________________
(1). مما
روي عن أبي سعيد الخدري ما رواه الحافظ ابن مردويه من طريق أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري‏ أنها نزلت على رسول اللّه (ص) يوم غدير خم حين قال لعلي: من كنت مولاه فهذا علي مولاه‏ ثم رواه عن أبي هريرة أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة يعني مرجعه (ص) من حجة الوداع‏ (تفسير ابن كثير 3: 14)
و
السيوطي في الدر المنثور 3: 259 أخرج ابن مردوية و ابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: لما نصب رسول اللّه (ص) عليا (ع) يوم غدير خم فنادى له بالولاية هبط جبرئيل عليه بهذه الآية «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ...».
و
فيه أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مثله و في آخره: فنزلت «اليوم أكلت ...» فقال النبي: «اللَّهِ أَكْبَرُ ...» و نقله بهذا اللفظ الأربيلي في كشف الغمة (95).
(2) الثعلبي في تفسيره عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس روى قصة الغدير.
(3) أبو الفتح النطنزي في كتابه الخصائص العلوية عن الخدري و جابر الأنصاري أنهما قالا: لما نزلت: اليوم أكملت .. قال النبي (ص): اللّه أكبر على إكمال الدين و إتمام النعمة و رضى الرب برسالتي و ولاية علي بن أبي طالب (ع)، و أبو حامد سعد الدين الصالحاني قال شهاب الدين أحد في توضيح الدلائل على ترجيح الفضائل-
: و بالإسناد المذكور عن مجاهد قال لما نزلت هذه الآية بغدير خم فقال رسول اللّه (ص) و ذكر مثله.
(4) و مما روي‏

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏8، ص 72

و البراء بن عازب‏ «1» و زيد بن أرقم‏ «2» أخرجه و رواه عنهم عدد كثير التابعين و تابعي التابعين و المصنفين و المفسرين.

و حق لرسول الهدى (ص) أن يقول قوله حين نزول الآية: «الله أكبر على إكمال الدين و إتمام النعمة و رضى الرب برسالتي و الولاية لعلي بن أبي طالب» (ع) «3» و سوف نستقصي روايات الغدير عند البحث عن آية التبليغ إنشاء اللّه تعالى.

و ترى أن‏ «الْيَوْمَ يَئِسَ‏ ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ...- إلى- دِيناً» هل هي آية مستقلة تنزيلا ثم توسط هذه الآية تأليفا؟ أم هي هيه تنزيلا و تأليفا؟ فما هي الصلة بينها و بين ما احتفت بها من قبل و من بعد؟!.
إن الأصل المعني من القرآن هو تأليفه، فإنه هو الأليف الصائب بوحي اللّه تعالى حيث يراه انسب ما يصح و يمكن من تأليف الوحي النازل نجوما منفصلة لفظيا و معنويا.

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏8 ، ص 83   

فقد تناسب مناسبة حقة حقيقية ناصية السورة «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فإن عقد
______________________________
عن أبي هريرة عن النبي (ص) أنه قال: من صام يوم ثمان عشر من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهرا و هو يوم غدير خم لما أخذ النبي (ص) بيد علي بن أبي طالب (ع) فقال:
أ لست أولى بالمؤمنين؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه (ص) قال: من كنت مولاه فعلى مولاه فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ يا بن أبي طالب أصبحت مولاي و مولى كل مسلم فأنزل اللّه الآية ...
(1). الثعلبي في تفسيره عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال‏ لما أقبلنا مع رسول اللّه (ص) في حجة الوداع كنا بغدير خم فنادى أن الصلاة جامعة ... و روى قصة الغدير.
(2) و ممن أخرجه عنه الثعلبي في تفسيره و نقل جملة من قصة الغدير و منها فلقيه عمر فقال: هنيئا لك يا بن أبي طالب أصبحت و أمسيت مولى كل مؤمن و مؤمنة.
(3) قد أخرج العلامة الأميني في الغدير 1: 230- 238 حديث نزول آية الإكمال يوم الغدير عن ستة عشر مصدرا و حديث آية التبليغ عن ستين مصدرا و التفصيل إلى تفسير آية التبليغ.

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏8، ص 73

الولاية المستمرة المحمدية في أهل بيته عليهم السلام هو من أهم العقود.
فلقد توسطت آية إكمال الدين و إتمام النعمة كشطر آية هنا، جمعا بين العقود العقيدية و السياسية الصالحة و العقود العملية، فإن عقود الشرعة الربانية هي كلّ لا تتجزأ، كلّ متكامل متجاوب كلبنات بناية واحدة مهما اختلفت شكليات.

فهنا سواء في واجب الوفاء بالعقود ما يختص بالتصور و العقيدة و العقلية الإيمانية شعورا، و ما يختص بالعبادات شعارا و غير شعار، أو يختص بالحلال و الحرام بين شعور و شعار، و ما يختص بالتنظيمات الاجتماعية كعقد الولاية الرسالية بعد الرسول (ص)، جمعا بين الواجبات النفسية و البدنية، رعاية لمجمع الإنسانية: النفس و البدن.

ثم كما الاضطرار في مخمصة بدنية و هي الجوع القارع يسمح لأكل ما حرم من الميتة و ما أشبه قدر الضرورة المبقية لحياة.
كذلك الاضطرار في مخمصة نفسية يسمح في القعود عن تحقيق لإقامة القيادة الروحية و الزمنية- مستمرة- بعد النبي (ص).

و ترى المسلمين اضطروا في مخمصة في تنحّيهم عن تطبيق واجب الخلافة الإسلامية في علي و ولده المعصومين عليهم السلام؟!.
أو لم يتجانفوا لإثم في مأثمة غصب الخلافة الحقة التي هي رمز ليأس الذين كفروا من دينكم و إكمال الدين و إتمام النعمة و رضى الرب بإسلامنا؟.

فهل إن إسلام الاستسلام أمام السلطات الجائرة زمن المعصومين عليهم السلام و بعدهم، ذلك إسلام مرضي لرب العالمين، فالذين كفروا يائسون من القضاء عليه و إضعافه و استضعاف المسلمين العائشين تحت أنياره؟! و هل إن ذلك من إكمال الدين و إتمام النعمة أن يعيش المسلمون تحت وطأة الاستعمار الاستثمار الاستحمار الاستكبار الاستبداد الاستخفاف الاستضعاف؟!.

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏8، ص 74

يعيشون بين هذه الأبواب الجهنمية يمينية و يسارية متخلفة عن الشجرة الزيتونة المحمدية التي هي لا شرقية و لا غربية؟!.

«اليوم» يوم الغدير، الذي بلغ فيه البشير النذير استمرارية القيادة الإسلامية السامية في الصالحين من أمته، معصومين زمنهم، و الربانيين من علماء الأمة زمن الغيبة.

«اليوم» هو اليوم الذي فيه‏ «يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» يئسوا من زواله و اضمحلاله، حيث اجتمع إلى كماله في نفسه و تمام النعمة فيه، ما بالإمكان أن يدير رحى المجتمعات البشرية مهما طالت و كثرت.

اجتمع إلى ذلك بقاء و استمرار قيادته الروحية و الزمنية، فإن رمز استمراره و تحليقه- يوما مّا- على ربوع الإنسانية جمعاء، فدور الخلافة المعصومة يجمع في نفسه تبيين القرآن و السنة ما لم يكن ليبيّن زمن الرسول (ص) إلا لأبواب مدينة علمه كعلي و فاطمة عليهما السلام و ولدهما الأحد عشر، إضافة إلى القيادة الرسالية التي كان يحملها الرسول (ص) و من ثم دور الغيبة الكبرى المتوسطة بين عصر الحضور حيث يقوده العلماء الربانيون على ضوء الكتاب و السنة.

فدور التبيين مكمّل لدور التشريع في بعدين اثنين، فلم يكن الدين مكمّلا، و النعمة متمّمة، و الإسلام مرضيا، إلّا بهذه الاستمرارية السامية.

صحيح أن الرسول (ص) كان يبيّن الخلافة المعصومة أحيانا كثيرة، و لكنها لم تكن تعدو أجواء خاصة و لأشخاص خصوص، فأين هي و أين البلاغ في جو الغدير بتلك الصورة الوضاءة الهامة التي جلبت أنظار الحاضرين الذين كانوا هم خلاصة المسلمين في عصر النبي (ص) و كلاسة عن جمعهم أجمعين.

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏8، ص 75

ذلك هو إكمال الدين و إتمام النعمة و رضى الرب لنا إسلامنا- لو حلق في استمراره على كل التاريخ الإسلامي المجيد-!.

و القول إن التارك لما هو إكمال الدين و إتمام النعمة و رضى الرب- و هو أهم من أصل الدين- أحرى أن يسمى كافرا أو مرتدا ممن ترك فرعا من الدين، مردود بأن الترك واقعيا ليس كفرا و لا ارتدادا، إنما هو الرد على اللّه و رسوله عقيديا إظهارا باللسان أو أيا كان فالمنافق ما لم يظهر تكذيبا للدين يعتبر مسلما، و المؤمن إذا أظهر تكذيبا كان مرتدا، فالذين تركوا تحقيق الولاية قاصرين أو مقصرين هم أولاء مسلمون كسائر المسلمين، اللهم إلّا من صرح بتكذيب الرسول فيما كان يفعل أو يقول، فأمّا المأوّل لقوله قاصرا أو مقصرا تبريرا لواقع اتجاهه فلا يعد مرتدا أو كافرا، و إلا لم يبق من المسلمين إلّا نزر قليل.

فالشرعة التي تزول و تذبل بموت حاملها الأول لا يخشى منها مهما كانت كاملة، فكل نظام قانوني صالح بحاجة لاستمراره إلى صالح التطبيق الجماهيري الذي لا يصلح إلا تحت رعاية حاكمية قديرة حكيمة، فبفساد كلّ من القانون و الحاكم به يموت أو يضعف القانون، فضلا عن فسادهما مع بعض.
و كما أن‏ «بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ» ضمان للعزة كذلك‏ «حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ» كما «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ» و هكذا نؤمر في‏ «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً» أن نؤسّس جمعية الاعتصام الصالح بحبل اللّه حتى نعتصم من بأس الكافرين.

ف «الَّذِينَ كَفَرُوا» ككل، أيا كانوا و أيان لا ييأسون من ديننا ان يزول بنفسه أو يزال إلّا بانضمام استمرارية القيادة الصالحة إلى صالح القانون و هو القرآن، فما دامت الحاكمية الطليقة للقرآن بالحكام الصالحين على ضوءه‏

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏8، ص 76

فالذين كفروا هم في إياس مطلق مطبق، و كما يئسوا في الدولة الأولى الإسلامية التي أسسها الرسول (ص) مهما اختلفت الدرجات، و من ثم لما نقضوا عهد الخلافة الصالحة إلى الخلافة الطالحة طمع الذين كفروا في ديننا حتى آل أمرنا إلى ما آل.

ذلك! و من أبرز ملامح الضرورة القيادية الصالحة لتطبيق القرآن أننا لا نجد «يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بصورة مطلقة مطبقة إلّا «اليوم» و هو يوم قرار الاستمرار للدولة المحمدية (ص)، المبيّن فيه الكتاب و السنة بصورة عاصمة معصومة.

صحيح أن الذين كفروا لا يستطيعون على أية حال أن ينقضوا ديننا أو أن ينقصوا منه ببرهان، و لكنهم يحاولون في إبعاد المسلمين عن القرآن، و زعزعة إيمانهم و إيقانهم بهذا الدين المتين لولا السلطة الروحية و الزمنية القرآنية على طول الخط.

فالدعايات المضلّلة من الذين كفروا و سائر المحاولات الشريرة و دوائر السوء المختلفة، المتربصة بالذين آمنوا، لا تزال مستمرة حتى يجعلوا الدين في عزلة بعيدة عن أهله، رغم نصوع براهينه و سطوح مضامينه.
كما و أن الهجمات الحربية المتواصلة منهم تحتل أراضينا و أنفسنا «إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ».
ف «لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ» لا تخاطب إلّا المعتصمين بحبل اللّه المطبقين شرعة اللّه، المجاهدين في سبيل اللّه، المضحّين في الحفاظ على حرمات اللّه، كما سبقت هذه الشروطات في «لن يضروكم».

فليس صالح الدين بنفسه مما يؤيس الكافرين تمام الإياس و زوال الإبلاس من ديننا، إنما هو صالح تطبيقه بالقيادات الصالحة الروحية

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏8، ص 77

و الزمنية، و كما
في حديث الصادقين عليهما السلام‏ تفسيرا للآية، أي أكملت لكم دينكم بإقامة حافظه .. «1».

فالحافظ القيادي للدين دوره كالحافظ الأصلي لمادة الدين، فبكمال القيادة الروحية و الزمنية التطبيقية للدين ييأس الذين كفروا من زواله أو إزالته، و بضعفها كضعفه نفسه يأمل الذين كفروا زواله أو إزالته من الدور الجماعي.
و «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا» هو يوم قرار القيادة المعصومة، استمرارية للقيادة العليا الرسولية التي تحمله الرسالة، معصومين و هم الاثنى عشر، و من يتلو تلوهم كالعلماء الربانيين زمن الغيبة الكبرى لآخرهم المنتظر المأمول.

إذا «فلا تخشوهم» أن يزيلوا هذا الدين ما دامت قواعده سليمة «و اخشون» أن تتخلفوا عن قيادته الروحية و الزمنية العليا تأسيسا لها و اتباعا إياها و تحقيقا للدين بكل أبعاده، فإبعاده لكل العراقيل الكافرة الشاغرة.
لذلك لم ييأس الذي كفروا من ديننا في أي يوم من أيام هذه الرسالة السامية يأسا شاملا إلا يوم إذاعة الاستمرارية لها بالخلافة المعصومة العاصمة لها، مهما اغتصبت لردح بعيد من الزمن، و لكن بنية الرسالة المستمرة على مر الزمن بذلك القرار الحاسم، إنها تؤيس الذين كفروا من زوالها أو إزالتها.

و على الذين آمنوا طول الزمن الرسالي تقبّل القيادة المعصومة، ثم في زمن غياب العصمة انتخاب النخبة العليا من العلماء الربانيين ليقودوا الأمة الإسلامية سالمة سليمة.
ذلك، فالإثم في تأخر المسلمين عن تأسيس دولتهم الإسلامية الموحدة
______________________________
(1). الخصائص عن الصادقين عليه السلام.

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏8، ص 78

السامية إنما هو على المتجانفين لتركه، المتكاسلين عن محاولته، المستسلمين- دوما- للأمر الواقع الشرير.
كما و أن قسما منهم خيّل إليهم أن القيام لتأسيس دولة الإسلام و طرد الظلم إنما هو على عاتق صاحب الأمر (ع) و أما نحن مدى غيابه (ع) فعلينا أن نتقاعد مكتوفي الأيدي، رغم الأوامر المؤكدة المشددة القرآنية المشدودة لإقامة الدين، و قصم شوكة المعتدين المغتصبين، و بسط المعروف و إزالة المنكر قدر المستطاع، مهما كان تأسيس الدولة العالمية الإسلامية في أصلها على عاتق صاحب الأمر عجل اللّه تعالى فرجه و سهل مخرجه.
و إذا «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ» على دينكم و على أنفسكم، بل «و اخشون» في التخلف عن إقامة ما يؤيس الذين كفروا فاستضعافا للدينين و استخفافا بالدين و مواصلة بكل المحاولات في سحقهم و محقهم، و ترى‏ «رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» يعني- فقط- هذه الشرعة بطقوسها؟ و كثيرون هؤلاء الذين يطبقون طقوسها و هم غير مرضيين للّه! ..

«الإسلام» هو إسلام الوجه للّه، و منه الإسلام لما حصل يوم إكمال الدين و إتمام النعمة و هو تأمير الأمير بإمرة المؤمنين (ع) و تقبّل استمرارها إلى يوم الدين.

ف «دينا» تعني طاعة طليقة للّه، و الإسلام السليم هو الطاعة المرضية للّه لا سواه، فالإسلام الخاوي عن القيادة المستمرة السليمة إسلام غير مرضي، و قد يصبح كالكفر أو أنحس منه، فمثلث إكمال الدين و إتمام النعمة و الرضى عن الإسلام بعد «يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا» يشكّل القواعد الأربع لعز الإسلام و سيادته، فليس اليأس إلّا لهذه الثلاث.

و لأن آيتي التبليغ و الإكمال مرتبطتان مع بعض حيث تحملان أمر الإمرة الإسلامية بعد الرسول (ص)، إذا فروايات الغدير البالغة إلى مئات تعتبر

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏8، ص 79

من روايات مؤيدة لنزول آية الإكمال بشأن الغدير «1».

ذلك، و ليأس الذين كفروا من دينكم مراحل أخراها بتامّ اليأس و طامّه الجمع بين إكمال الدين و إتمام النعمة بمثلث عمارة الإسلام العامرة: 1 كمال قوانينه الصالحة الانطباق في كل عصر و مصر. 2 كمال الزعامة الدينية روحية و زمنية، 3 و كمال المؤمنين به ائتماما بأئمة الإسلام، و تطبيقا عميقا للإسلام، و كل ذلك في الوسط القرآني العظيم، فإنه المحور الأصيل لهذه الزوايا الثلاث.

ذلك اليأس يحلّق على الذين كفروا في الطول التاريخي و العرض الجغرافي، و لذلك يحاولون في هدم مثلثه، مركّزين على تنحية القرآن عن الوسط الإسلامي.

و مهما يكن من شي‏ء فقد تكفي بالمآل إمرة صاحب الأمر لتحقيق ذلك اليأس بأعماقه.
و ترى الاضطرار في مخمصة الذي يسمح بارتكاب محرّم أكلا أم إيكالا، أو محرم في سياسة الشرعة الإلهية، ما هو حده و مدّه؟.

«مخمصة»- و هي حالة الضرورة- محدّدة هنا ب «غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ» فالمقصر في ذلك الاضطرار هو متجانف لإثم، فأكل المحرم- كالسكوت أمام السلطة الجائرة- محرّم عليه حالة الاضطرار، رغم وجوبه عليه- خوف الموت- حفاظا على نفسه.

و تجانف الإثم هو التجاوب معه مهما كان بتقصير في حصول مقدماته‏
______________________________
(1). روات الغدير من الصحابة- حسب ما في الغدير- مائة و عشرة، شخصا، و من التابعين أربع و ثمانون، و طبقات الرواة العلماء (360) شخصا في القرون الإسلامية، و المؤلفون (26) شخصا و المناشدات به و الإحتجاجات اثنان و عشرون (الغدير للعلامة الأميني 1: 14- 213).

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏8، ص 80

و مهيئاته- فإنه التمايل المتخلف كما الحنف هو الميل المتآلف- كمن يسافر- دون ضرورة- إلى بلدة يضطر فيها إلى أكل الحرام أو فعل الحرام، فإن سفره هذا تجانف لإثم، مهما لم يتعمد أكل الحرام حين اضطراره إلّا اضطرارا.

فهنا «غَفُورٌ رَحِيمٌ» ليست لتشمل إلّا المضطر غير المتجانف لإثم، و قد جاء في أخرى‏ «.. غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» (2: 173) و في ثالثة و رابعة: «فإن الله- فَإِنَّ رَبَّكَ- غَفُورٌ رَحِيمٌ» (6: 145) و 16:
115).

إذا فثالوث «تجانف لإثم- عاد- باغ» تحرّم على المضطر حتى حين تهدر نفسه، مهما كان واجبا في هدرها حفاظا على نفسه، و هنا «غَيْرَ مُتَجانِفٍ» دون‏ «غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ» حيث الموضوع أعم مما في هذه الثلاث الأخرى و أهم، إذ يجمع إلى مخمصة الجوع مخمصة الروح حرجا و تضيّقا.

و لا يختص الاضطرار هنا بخوف التلف إلّا بالنسبة للمتجانف العادي الباغي، فقد يجوز لغيرهم أكل هذه المحرمات قدر الضرورة للحفاظ على قوة حياة مهما لا يخاف الموت، حيث الاضطرار لا يختص باضطرار لأصل الحياة، بل و الاضطرار الحيوي يسمح و يفرض اقتراف الحرام للحفاظ على النفس مهما حرم من جهة التقصير في حصول الاضطرار.

و قد يعني الاضطرار بصورة عامة تكلف الضرر نفسيا أو صحيا أو ماليا أو عرضيا أو دينيا، في نفسه أمّن هو كنفسه من ولده و أهليه، ما صدق الاضطرار عليه عرفا.

ففي حالة اضطرار غير المقصر و لا باغ و لا عاد و لا متجانف لإثم يجوز تناول المحرم أيا كان قدر الضرورة، اللّهم إلّا أن تكون حرمة المحرم أغلظ من حرمة الاضطرار، ففي اضطرار الموت يحل كل حرام اللهم إلّا ما هو أشد محظورا منه، ثم في سائر الاضطرار لا بد من النظر إلى طرفيه، و لا

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏8، ص 81

يختص الاضطرار المحلّل للحرام بالحفاظ على النفس بل و الحفاظ على سائر النواميس الخمسة لنفسه أمن هو محسوب عليه.

ثم المضطر باختياره، أو الباغي و العادي أو المتجانف لإثم، هؤلاء هم عصاة في اقتراف المحرّم المضطر فيه مهما كان واجبا، فهو محظور تقصيرا، و محبور حفاظا على الواجب حفظه من نفس و صحة أمّاهيه.
و الغفر الطليق يختص بغير المقصر، و أما المقصر على دركاته فلا يغفر له حيث يعذّب بتقصيره، مهما عذب أيضا إذا لم يتناول المحرم حالة اضطراره، و ليس مورد الاضطرار بالاختيار و ما أشبه من موارد ترجيح الأهم على المهم سلبا لحكم المهم، أو تساوي الحكمين فتساقطهما ثم الحكم بإباحة الطرفين، فإن حكم المهم يزول عند الاضطرار العاذر و في سواه يبقى الحكم على حاله كالمضطر الباغي أو العادي أو المتجانف لإثم بنص الاستثناء الخاص، و العنوان الثانوي إنما يزيل حكم العنوان الاولى في حالة العذر دون تقصير.

فهنا الضابطة «الضرورات تبيح المحظورات» تخصص بالضرورات غير المختارة، أم «تبيح» إباحة مطلقة في غير المقصرة أصلا و فرعا، و إباحة جانبية في المقصرة بمعنى بقاء حكم الوجوب و الحرمة معا.
فالقول إن واجب الحفاظ على النفس و محرم اقتراف المحرم حالة الاضطرار المقصر هو الجمع بين الواجب و المحرم و أنه مستحيل أم يرجح أرجح الأمرين.

إنه مردود بأن الوجوب و الحرمة متواردان على وجهين، ثم لا تزول الحرمة المعارضة بأهم منها إلّا إذا كانت غير مقصرة، فالمضطر الباغي أو العادي أو المتجانف لإثم أو الذي اضطر باختياره معاقب على أي الحالين، فيعاقب على اقتراف الحرام حفاظا على نفسه، كما يعاقب على هدر نفسه تركا لذلك المحرم لمكان تقصيره في ذلك التضيق و الحرج و «ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي‏

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏8، ص 82

الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» تختص بالجعل التشريعي و أما الذي يحرج نفسه بنفسه فهو الذي جعل على نفسه الحرج تخلفا عن شرعة اللّه.

دور إكمال الدين و إتمام النعمة بصورة عامة:
هنا إكمال الدين و ليس إكمال الشرعة من الدين، فالقصد من «دينكم» هو الدين كله حيث‏ «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ..» (42: 13).

فكل شرعة من الدين طرف منه يختص بزمن خاص، فيها سؤل المكلفين به، و لكن هذه الشرعة الأخيرة تحمل كل ما تحمله الشرايع الأربع و زيادة هي سر الخلود إلى يوم الدين، فلا تختص ببيئة خاصة و زمن خاص و ناس خصوص كسائر الشرائع المؤقتة.

بل إن هذه الرسالة الأخيرة تخاطب الإنسان من وراء كل الظروف و البيئات، و تتناول حياة المكلفين إلى يوم الدين من جميع أطرافها، محلقة على كل سؤل دون إبقاء، واضعة لها المبادئ الكلية و الضوابط الشاملة فيما يتطور فيها و يتحوّر بتغير الزمان و المكان، و كذلك الأحكام التفصيلية و القوانين الجزئية فيما لا يتطور و لا يتحور بتغير الزمان و المكان و تحوّرها.

فقد أعلن «يوم الغدير» بواسطة ذلك البشير النذير إكمال الدين بكل أصوله و فروعه، و سر استمراره، و مستسر قوته و قراره.

إذا فالمخاطبون ب «لَكُمْ دِينَكُمْ ..» هم كل المكلفين في الطول التاريخي و العرض الجغرافي منذ بزوغ الإسلام إلى يوم الدين.

و هكذا «أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» في إكمال دينكم، النعمة الخاصة الربانية الرحيمية التي قضيتها إرسال الرسل و إنزال الكتب، فقد أتممت تلك‏

الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، ج‏8، ص 83

النعمة الناعمة القائمة بأسرها، فلم تبق عندي نعمة بالإمكان إنزالها على المكلفين إلّا و قد أنزلتها في هذه الشرعة من الدين التي هي الدين كله بكماله و تمامه.

إذا فما ذا بعد إكمال الدين- فيما يحاوله مختلقو شرعة بعده- إلا انتقاص، و ماذا بعد إتمام النعمة إلا نقمة و إفلاس.

أجل، و لكنه لا يدرك حقيقة نعمة اللّه في هذا الدين و لا يقدر قدرها إلا من يعرف الجاهلية و يذوق وبالها و ويلاتها، ثم و من يعرف شرايع الدين قبله بتحرّفاتها عن جهات أشراعها، و أنها في نفس الوقت وقتية مؤقتة، و كأنها- أو أنها- تقدمات و تعبيدات طريق لهذه الشرعة الأخيرة

فلقد انشأ الإسلام من البشرية أمة تطل من القمة السامقة على كافة المكلفين كلهم في السفح، في كل جانب من جوانب الحياة.

ذلك الدين المتين- بكل أعباءه و قضاياه- هو الذي رضيه اللّه لنا دينا، مما يحرضنا على الاستقامة قدر جهدنا لإقامته، و إلا فما أنكد و ما أحمق من يهمل أو يرفض ما رضيه اللّه له ليختار لنفسه غير ما اختاره اللّه، أو يغير معالمه الأصيلة إلى طقوس و أذكار خاوية، و تلك- إذا- جرعة نكدة ليست لتذهب دون جزاء.
ذلك، و «من» في «من دينكم» تعني- فقط- التعدية إذ لو عنت معها معنى آخر كالتبعيض فقد عنت/ «يئس الذين كفروا من بعض دينكم» فهو «من من دينكم».

و «دينكم» له مرحلتان، أصله، و كونه معكم، و اليأس يشملهما، فقد يئسوا من زواله أو إزالته من أصله أو عنكم حيث قرر فيكم استمراريته قيادة و قانونا مضمونا في عصمتها.

نسخه شناسی

درباره مولف

کتاب شناسی

 

منابع: 

صادقى تهرانى، محمد، الفرقان فى تفسير القرآن بالقرآن، قم، انتشارات فرهنگ اسلامى‏، 1365 ش‏، چاپ دوم‏، ج 8، صص67-83