آیه 3، سوره مائده: تفسیر المیزان فی تفسیر القرآن

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 167

... قوله تعالى‏: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ» أمر الآية في حلولها محلها ثم في دلالتها عجيب، فإنك إذا تأملت صدر الآية أعني قوله تعالى:

«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ- إلى قوله:- ذلِكُمْ فِسْقٌ» و أضفت إليه ذيلها أعني قوله:
«فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» وجدته كلاما تاما غير متوقف في تمام معناه و إفادة المراد منه إلى شي‏ء من قوله:

«الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» (إلخ) أصلا، و ألفيته آية كاملة مماثلة لما تقدم عليها في النزول من الآيات الواقعة في سورة الأنعام و النحل و البقرة المبينة لمحرمات الطعام، ففي سورة البقرة: «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» و يماثله ما في سورتي الأنعام و النحل.

و ينتج ذلك أن قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا» (إلخ) كلام معترض موضوع في وسط هذه الآية غير متوقف عليه لفظ الآية في دلالتها و بيانها، سواء قلنا: إن الآية نازلة في وسط الآية فتخللت بينها من أول ما نزلت، أو قلنا إن النبي ص هو الذي أمر كتاب الوحي بوضع الآية في هذا الموضع مع انفصال الآيتين و اختلافهما نزولا. أو قلنا:

إنها موضوعة في موضعها الذي هي فيه عند التأليف من غير أن تصاحبها نزولا، فإن شيئا من هذه الاحتمالات لا يؤثر أثرا فيما ذكرناه من كون هذا الكلام المتخلل معترضا إذا قيس إلى صدر الآية و ذيلها.
و يؤيد ذلك أن جل الروايات الواردة في سبب النزول- لو لم يكن كلها، و هي أخبار جمة- يخص قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا» (إلخ) بالذكر من غير أن يتعرض‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 168

لأصل الآية أعني قوله: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ»، أصلا، و هذا يؤيد أيضا نزول قوله:
«الْيَوْمَ يَئِسَ» (إلخ) نزولا مستقلا منفصلا عن الصدر و الذيل، و إن وقوع الآية في وسط الآية مستند إلى تأليف النبي ص أو إلى تأليف المؤلفين بعده.

و يؤيده ما رواه في الدر المنثور، عن عبد بن حميد عن الشعبي قال": نزل على النبي ص هذه الآية- و هو بعرفة-: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ»- و كان إذا أعجبته آيات جعلهن صدر السورة، قال: و كان جبرئيل يعلمه كيف ينسك.

ثم إن هاتين الجملتين أعني قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» و قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏ متقاربتان مضمونا، مرتبطتان مفهوما بلا ريب، لظهور ما بين يأس الكفار من دين المسلمين و بين إكمال دين المسلمين من الارتباط القريب، و قبول المضمونين لأن يمتزجا فيتركبا مضمونا واحدا مرتبط الأجزاء، متصل الأطراف بعضها ببعض، مضافا إلى ما بين الجملتين من الاتحاد في السياق.

و يؤيد ذلك ما نرى أن السلف و الخلف من مفسري الصحابة و التابعين و المتأخرين إلى يومنا هذا أخذوا الجملتين متصلتين يتم بعضهما، بعضا و ليس ذلك إلا لأنهم فهموا من هاتين الجملتين ذلك، و بنوا على نزولهما معا، و اجتماعهما من حيث الدلالة على مدلول واحد.

و ينتج ذلك أن هذه الآية المعترضة أعني قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ- إلى قوله:- وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» كلام واحد متصل بعض أجزائه ببعض مسوق لغرض واحد قائم بمجموع الجملتين من غير تشتت سواء قلنا بارتباطه بالآية المحيطة بها أو لم نقل، فإن ذلك لا يؤثر البتة في كون هذا المجموع كلاما واحدا معترضا لا كلامين ذوي غرضين، و إن اليوم المتكرر في قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا»، و في قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏»، أريد به يوم واحد يئس فيه الكفار و أكمل فيه الدين.

ثم ما المراد بهذا اليوم الواقع في قوله تعالى‏: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ»؟ فهل المراد به زمان ظهور الإسلام ببعثة النبي ص و دعوته فيكون المراد أن الله أنزل إليكم الإسلام، و أكمل لكم الدين و أتم عليكم النعمة و أيأس منكم الكفار؟.

لا سبيل إلى ذلك لأن ظاهر السياق أنه كان لهم دين كان الكفار يطمعون في إبطاله أو تغييره، و كان المسلمون يخشونهم على دينهم فأيأس الله الكافرين مما طمعوا فيه و آمن‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 169

المسلمين و أنه كان ناقصا فأكمله الله و أتم نعمته عليهم و لم يكن لهم قبل الإسلام دين حتى يطمع فيه الكفار أو يكمله الله و يتم نعمته عليهم.

على أن لازم ما ذكر من المعنى أن يتقدم قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ»، على قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا»، حتى يستقيم الكلام في نظمه.

أو أن المراد باليوم هو ما بعد فتح مكة حيث أبطل الله فيه كيد مشركي قريش و أذهب شوكتهم، و هدم فيه بنيان دينهم، و كسر أصنامهم فانقطع رجاؤهم أن يقوموا على ساق، و يضادوا الإسلام و يمانعوا نفوذ أمره و انتشار صيته.

لا سبيل إلى ذلك أيضا فإن الآية تدل على إكمال الدين و إتمام النعمة و لما يكمل الدين بفتح مكة- و كان في السنة الثامنة من الهجرة- فكم من فريضة نزلت بعد ذلك، و كم من حلال أو حرام شرع فيما بينه و بين رحلة النبي ص.

على أن قوله: «الَّذِينَ كَفَرُوا يعم جميع مشركي العرب و لم يكونوا جميعا آيسين من دين المسلمين، و من الدليل عليه أن كثيرا من المعارضات و المواثيق على عدم التعرض كانت باقية بعد على اعتبارها و احترامها، و كانوا يحجون حجة الجاهلية على سنن المشركين، و كانت النساء يحججن عاريات مكشوفات العورة حتى بعث رسول الله ص عليا (ع) بآيات البراءة فأبطل بقايا رسوم الجاهلية.

أو أن المراد باليوم ما بعد نزول البراءة من الزمان حيث انبسط الإسلام على جزيرة العرب تقريبا، و عفت آثار الشرك، و ماتت سنن الجاهلية فما كان المسلمون يرون في معاهد الدين و مناسك الحج أحدا من المشركين، وصفا لهم الأمر، و أبدلهم الله بعد خوفهم أمنا يعبدونه و لا يشركون به شيئا.

لا سبيل إلى ذلك فإن مشركي العرب و إن أيسوا من دين المسلمين بعد نزول آيات البراءة و طي بساط الشرك من الجزيرة و إعفاء رسوم الجاهلية إلا أن الدين لم يكمل بعد و قد نزلت فرائض و أحكام بعد ذلك و منها ما في هذه السورة: (سورة المائدة)، و قد اتفقوا على نزولها في آخر عهد النبي ص، و فيها شي‏ء كثير من أحكام الحلال و الحرام و الحدود و القصاص.

فتحصل أنه لا سبيل إلى احتمال أن يكون المراد باليوم في الآية معناه الوسيع مما

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 170

يناسب مفاد الآية بحسب بادئ النظر كزمان ظهور الدعوة الإسلامية أو ما بعد فتح مكة من الزمان، أو ما بعد نزول آيات البراءة فلا سبيل إلا أن يقال: إن المراد باليوم يوم نزول الآية نفسها، و هو يوم نزول السورة إن كان قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا»، معترضا مرتبطا بحسب المعنى بالآية المحيطة بها، أو بعد نزول سورة المائدة في أواخر عهد النبي ص، و ذلك لمكان قوله تعالى‏: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ».

فهل المراد باليوم يوم فتح مكة بعينه؟ أو يوم نزول البراءة بعينه؟ يكفي في فساده ما تقدم من الإشكالات الواردة على الاحتمال الثاني و الثالث المتقدمين.

أو أن المراد باليوم هو يوم عرفة من حجة الوداع كما ذكره كثير من المفسرين و به ورد بعض الروايات؟ فما المراد من يأس الذين كفروا يومئذ من دين المسلمين فإن كان المراد باليأس من الدين يأس مشركي قريش من الظهور على دين المسلمين فقد كان ذلك يوم الفتح عام ثمانية لا يوم عرفة من السنة العاشرة، و إن كان المراد يأس مشركي العرب من ذلك فقد كان ذلك عند نزول البراءة و هو في السنة التاسعة من الهجرة، و إن كان المراد به يأس جميع الكفار الشامل لليهود و النصارى و المجوس و غيرهم- و ذلك الذي يقتضيه إطلاق قوله‏: «الَّذِينَ كَفَرُوا»- فهؤلاء لم يكونوا آيسين من الظهور على المسلمين بعد، و لما يظهر للإسلام قوة و شوكة و غلبة في خارج جزيرة العرب اليوم.

و من جهة أخرى يجب أن نتأمل فيما لهذا اليوم- و هو يوم عرفة تاسع ذي الحجة سنة عشر من الهجرة- من الشأن الذي يناسب قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» في الآية.
فربما أمكن أن يقال: إن المراد به إكمال أمر الحج بحضور النبي ص بنفسه فيه، و تعليمه الناس تعليما عمليا مشفوعا بالقول.

لكن فيه أن مجرد تعليمه الناس مناسك حجهم- و قد أمرهم بحج التمتع و لم يلبث دون أن صار مهجورا، و قد تقدمه تشريع أركان الدين من صلاة و صوم و حج و زكاة و جهاد و غير ذلك- لا يصح أن يسمى إكمالا للدين، و كيف يصح أن يسمى تعليم شي‏ء من واجبات الدين إكمالا لذلك الواجب فضلا عن أن يسمى تعليم واجب من واجبات الدين لمجموع الدين.

على أن هذا الاحتمال يوجب انقطاع رابطة الفقرة الأولى أعني قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ‏ بهذه الفقرة أعني قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» و أي ربط

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 171

ليأس الكفار عن الدين بتعليم رسول الله ص حج التمتع للناس.
و ربما أمكن أن يقال إن المراد به إكمال الدين بنزول بقايا الحلال و الحرام في هذا اليوم في سورة المائدة، فلا حلال بعده و لا حرام، و بإكمال الدين استولى اليأس على قلوب الكفار، و لاحت آثاره على وجوههم.
لكن يجب أن نتبصر في تمييز هؤلاء الكفار الذين عبر عنهم في الآية بقوله: «الَّذِينَ كَفَرُوا» على هذا التقدير و أنهم من هم؟ فإن أريد بهم كفار العرب فقد كان الإسلام عمهم يومئذ و لم يكن فيهم من يتظاهر بغير الإسلام و هو الإسلام حقيقة، فمن هم الكفار الآيسون؟.
و إن أريد بهم الكفار من غيرهم كسائر العرب من الأمم و الأجيال فقد عرفت آنفا أنهم لم يكونوا آيسين يومئذ من الظهور على المسلمين.

ثم نتبصر في أمر انسداد باب التشريع بنزول سورة المائدة و انقضاء يوم عرفة فقد وردت روايات كثيرة لا يستهان بها عددا بنزول أحكام و فرائض بعد اليوم كما في آية الصيف‏ «1» و آيات الربا، حتى أنه روي عن عمر أنه قال في خطبة خطبها: من آخر القرآن نزولا آية الربا، و إنه مات رسول الله و لم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم، الحديث‏

و روى البخاري في الصحيح، عن ابن عباس قال": آخر آية نزلت على النبي ص آية الربا، إلى غير ذلك من الروايات.

و ليس للباحث أن يضعف الروايات فيقدم الآية عليها، لأن الآية ليست بصريحة و لا ظاهرة في كون المراد باليوم فيها هذا اليوم بعينه و إنما هو وجه محتمل يتوقف في تعينه على انتفاء كل احتمال ينافيه، و هذه الأخبار لا تقصر عن الاحتمال المجرد عن السند.

أو يقال: إن المراد بإكمال الدين خلوص البيت الحرام لهم، و إجلاء المشركين عنه حتى حجه المسلمون و هم لا يخالطهم المشركون.

و فيه: أنه قد كان صفا الأمر للمسلمين فيما ذكر قبل ذلك بسنة، فما معنى تقييده باليوم في قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ»؟ على أنه لو سلم كون هذا الخلوص إتماما
______________________________
(1) و هي آية الكلالة المذكورة في آخر سورة النساء.

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 172

للنعمة لم يسلم كونه إكمالا للدين، و أي معنى لتسمية خلوص البيت إكمالا للدين، و ليس الدين إلا مجموعة من عقائد و أحكام، و ليس إكماله إلا أن يضاف إلى عدد أجزائها و أبعاضها عدد؟ و أما صفاء الجو لإجرائها، و ارتفاع الموانع و المزاحمات عن العمل بها فليس يسمى إكمالا للدين البتة. على أن إشكال يأس الكفار عن الدين على حاله.

و يمكن أن يقال: إن المراد من إكمال الدين بيان هذه المحرمات بيانا تفصيليا ليأخذ به المسلمون، و يجتنبوها و لا يخشوا الكفار في ذلك لأنهم قد يئسوا من دينهم بإعزاز الله المسلمين، و إظهار دينهم و تغليبهم على الكفار.

توضيح ذلك أن حكمة الاكتفاء في صدر الإسلام بذكر المحرمات الأربعة أعني الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير الله به الواقعة في بعض السور المكية و ترك تفصيل ما يندرج فيها مما كرهه الإسلام للمسلمين من سائر ما ذكر في هذه الآية إلى ما بعد فتح مكة إنما هي التدرج في تحريم هذه الخبائث و التشديد فيها كما كان التدريج في تحريم الخمر لئلا ينفر العرب من الإسلام، و لا يروا فيه حرجا يرجون به رجوع من آمن من فقرائهم و هم أكثر السابقين الأولين.

جاء هذا التفصيل للمحرمات بعد قوة الإسلام، و توسعة الله على أهله و إعزازهم و بعد أن يئس المشركون بذلك من نفور أهله منه، و زال طمعهم في الظهور عليهم، و إزالة دينهم بالقوة القاهرة، فكان المؤمنون أجدر بهم أن لا يبالوهم بالمداراة، و لا يخافوهم على دينهم و على أنفسهم.

فالمراد باليوم يوم عرفة من عام حجة الوداع، و هو اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية المبينة لما بقي من الأحكام التي أبطل بها الإسلام بقايا مهانة الجاهلية و خبائثها و أوهامها، و المبشرة بظهور المسلمين على المشركين ظهورا تاما لا مطمع لهم في زواله، و لا حاجة معه إلى شي‏ء من مداراتهم أو الخوف من عاقبة أمرهم.

فالله سبحانه يخبرهم في الآية أن الكفار أنفسهم قد يئسوا من زوال دينهم و أنه ينبغي لهم- و قد بدلهم بضعفهم قوة، و بخوفهم أمنا، و بفقرهم غنى- أن لا يخشوا غيره تعالى، و ينتهوا عن تفاصيل ما نهى الله عنه في الآية ففيها كمال دينهم. كذا ذكره بعضهم بتلخيص ما في النقل.

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 173

و فيه: أن هذا القائل أراد الجمع بين عدة من الاحتمالات المذكورة ليدفع بكل احتمال ما يتوجه إلى الاحتمال الآخر من الإشكال فتورط بين المحاذير برمتها و أفسد لفظ الآية و معناها جميعا.
فذهل عن أن المراد باليأس إن كان هو اليأس المستند إلى ظهور الإسلام و قوته و هو ما كان بفتح مكة أو بنزول آيات البراءة لم يصح أن يقال يوم عرفة من السنة العاشرة:

«الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» و قد كانوا يئسوا قبل ذلك بسنة أو سنتين، و إنما اللفظ الوافي له أن يقال: قد يئسوا كما عبر به القائل نفسه في كلامه في توضيح المعنى أو يقال: إنهم آيسون.

و ذهل عن أن هذا التدرج الذي ذكره في محرمات الطعام، و قاس تحريمها بتحريم الخمر إن أريد به التدرج من حيث تحريم بعض الأفراد بعد بعض فقد عرفت أن الآية لا تشتمل على أزيد مما تشتمل عليه آيات التحريم السابقة نزولا على هذه الآية أعني آيات البقرة و الأنعام و النحل، و أن المنخنقة و الموقوذة (إلخ) من أفراد ما ذكر فيها.

و إن أريد به التدرج من حيث البيان الإجمالي و التفصيلي خوفا من امتناع الناس من القبول ففي غير محله، فإن ما ذكر بالتصريح في السور السابقة على المائدة أعني الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير الله به أغلب مصداقا، و أكثر ابتلاء، و أوقع في قلوب الناس من أمثال المنخنقة و الموقوذة و غيرها، و هي أمور نادرة التحقق و شاذة الوجود، فما بال تلك الأربعة و هي أهم و أوقع و أكثر يصرح بتحريمها من غير خوف من ذلك ثم يتقي من ذكرها ما لا يعبأ بأمره بالإضافة إليها فيتدرج في بيان حرمتها، و يخاف من التصريح بها.

على أن ذلك لو سلم لم يكن إكمالا للدين، و هل يصح أن يسمى تشريع الأحكام دينا و إبلاغها و بيانها إكمالا للدين؟ و لو سلم فإنما ذلك إكمال لبعض الدين و إتمام لبعض النعمة لا للكل و الجميع، و قد قال تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» فأطلق القول من غير تقييد.

على أنه تعالى قد بين أحكاما كثيرة في أيام كثيرة، فما بال هذا الحكم في هذا اليوم خص بالمزية فسماه الله أو سمى بيانه تفصيلا بإشمال الدين و إتمام النعمة.

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 174

أو أن المراد بإكمال الدين إكماله بسد باب التشريع بعد هذه الآية المبينة لتفصيل محرمات الطعام، فما شأن الأحكام النازلة ما بين نزول المائدة و رحلة النبي ص؟ بل ما شأن سائر الأحكام النازلة بعد هذه الآية في سورة المائدة؟ تأمل فيه.

و بعد ذلك كله ما معنى قوله تعالى: «وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً»- و تقديره:
اليوم رضيت (إلخ)- لو كان المراد بالكلام الامتنان بما ذكر في الآية من المحرمات يوم عرفة من السنة العاشرة؟ و ما وجه اختصاص هذا اليوم بأن الله سبحانه رضي فيه الإسلام دينا، و لا أمر يختص به اليوم مما يناسب هذا الرضا؟.

و بعد ذلك كله يرد على هذا الوجه أكثر الإشكالات الواردة على الوجوه السابقة أو ما يقرب منها مما تقدم بيانه و لا نطيل بالإعادة.

أو أن المراد باليوم واحد من الأيام التي بين عرفة و بين ورود النبي ص المدينة على بعض الوجوه المذكورة في معنى يأس الكفار و معنى إكمال الدين.

و فيه من الإشكال ما يرد على غيره على التفصيل المتقدم.

فهذا شطر من البحث عن الآية بحسب السير فيما قيل أو يمكن أن يقال في توجيه معناها، و لنبحث عنها من طريق آخر يناسب طريق البحث الخاص بهذا الكتاب.

قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ»- و اليأس يقابل الرجاء، و الدين إنما نزل من عند الله تدريجا- يدل على أن الكفار قد كان لهم مطمع في دين المسلمين و هو الإسلام، و كانوا يرجون زواله بنحو منذ عهد و زمان، و إن أمرهم ذلك كان يهدد الإسلام حينا بعد حين، و كان الدين منهم على خطر يوما بعد يوم، و إن ذلك كان من حقه أن يحذر منه و يخشاه المؤمنون.

فقوله: «فَلا تَخْشَوْهُمْ»، تأمين منه سبحانه للمؤمنين مما كانوا منه على خطر، و من تسر به على خشية، قال تعالى: «وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ»: (آل عمران: 69)، و قال تعالى: «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ»: (البقرة: 109).

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 175

و الكفار لم يكونوا يتربصون الدوائر بالمسلمين إلا لدينهم، و لم يكن يضيق صدورهم و ينصدع قلوبهم إلا من جهة أن الدين كان يذهب بسؤددهم و شرفهم و استرسالهم في اقتراف كل ما تهواه طباعهم، و تألفه و تعتاد به نفوسهم، و يختم على تمتعهم بكل ما يشتهون بلا قيد و شرط.

فقد كان الدين هو المبغوض عندهم دون أهل الدين إلا من جهة دينهم الحق فلم يكن في قصدهم إبادة المسلمين و إفناء جمعهم بل إطفاء نور الله و تحكيم أركان الشرك المتزلزلة المضطربة به، و رد المؤمنين كفارا كما مر في قوله: «لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً» (الآية) قال تعالى: «يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» الصف: 9): (الصف: 9).

و قال تعالى: «فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ»: (المؤمن: 14).
و لذلك لم يكن لهم هم إلا أن يقطعوا هذه الشجرة الطيبة من أصلها، و يهدموا هذا البنيان الرفيع من أسه بتفتين المؤمنين و تسرية النفاق في جماعتهم و بث الشبه و الخرافات بينهم لإفساد دينهم.

و قد كانوا يأخذون بادئ الأمر يفترون عزيمة النبي ص و يستمحقون همته في الدعوة الدينية بالمال و الجاه، كما يشير إليه قوله تعالى: «وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى‏ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ يُرادُ»: (- ص: 6) أو بمخالطة أو مداهنة، كما يشير إليه قوله: «وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ»: (القلم: 9)، و قوله: «وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا»: (إسراء: 74)، و قوله: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ»: (الكافرون: 3) على ما ورد في أسباب النزول.

و كان آخر ما يرجونه في زوال الدين، و موت الدعوة المحقة، أنه سيموت بموت هذا القائم بأمره و لا عقب له، فإنهم كانوا يرون أنه ملك في صورة النبوة، و سلطنة في لباس الدعوة و الرسالة، فلو مات أو قتل لانقطع أثره و مات ذكره و ذكر دينه على ما هو المشهود عادة من حال السلاطين و الجبابرة أنهم مهما بلغ أمرهم من التعالي و التجبر و ركوب رقاب الناس فإن ذكرهم يموت بموتهم، و سننهم و قوانينهم الحاكمة بين الناس و عليهم تدفن معهم في قبورهم، يشير إلى رجائهم هذا قوله تعالى: «إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ:» (الكوثر: 3)

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 176

على ما ورد في أسباب النزول.

فقد كان هذه و أمثالها أماني تمكن الرجاء من نفوسهم، و تطمعهم في إطفاء نور الدين، و تزين لأوهامهم أن هذه الدعوة الطاهرة ليست إلا أحدوثة ستكذبه المقادير و يقضي عليها و يعفو أثرها مرور الأيام و الليالي، لكن ظهور الإسلام تدريجا على كل ما نازله من دين و أهله، و انتشار صيته، و اعتلاء كلمته بالشوكة و القوة قضى على هذه الأماني فيئسوا من إفساد عزيمة النبي ص، و إيقاف همته عند بعض ما كان يريده، و تطميعه بمال أو جاه.

قوة الإسلام و شوكته أيأستهم من جميع تلك الأسباب أسباب:- الرجاء- إلا واحدا، و هو أنه (ص) مقطوع العقب لا ولد له تخلفه في أمره، و يقوم على ما قام عليه من الدعوة الدينية فسيموت دينه بموته، و ذلك أن من البديهي أن كمال الدين من جهة أحكامه و معارفه- و إن بلغ ما بلغ- لا يقوى بنفسه على حفظ نفسه، و أن سنة من السنن المحدثة و الأديان المتبعة لا تبقى على نضارتها و صفائها لا بنفسها و لا بانتشار صيتها و لا بكثرة المنتحلين بها، كما أنها لا تنمحي و لا تنطمس بقهر أو جبر أو تهديد أو فتنة أو عذاب أو غير ذلك إلا بموت حملتها و حفظتها و القائمين بتدبير أمرها.

و من جميع ما تقدم يظهر أن تمام يأس الكفار إنما كان يتحقق عند الاعتبار الصحيح بأن ينصب الله لهذا الدين من يقوم مقام النبي ص في حفظه و تدبير أمره، و إرشاد الأمة القائمة به فيتعقب ذلك يأس الذين كفروا من دين المسلمين لما شاهدوا خروج الدين عن مرحلة القيام بالحامل الشخصي إلى مرحلة القيام بالحامل النوعي، و يكون ذلك إكمالا للدين بتحويله من صفة الحدوث إلى صفة البقاء، و إتماما لهذه النعمة،

و ليس يبعد أن يكون قوله تعالى: «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ»: (البقرة: 109) باشتماله على قوله: «حَتَّى يَأْتِيَ»، إشارة إلى هذا المعنى.

و هذا يؤيد ما ورد من الروايات أن الآية نزلت يوم غدير خم، و هو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة عشر من الهجرة في أمر ولاية علي (ع)، و على هذا فيرتبط الفقرتان أوضح الارتباط، و لا يرد عليه شي‏ء من الإشكالات المتقدمة.

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 177

ثم إنك بعد ما عرفت معنى اليأس في الآية تعرف أن اليوم: «في قوله‏ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ‏ ظرف متعلق بقوله‏: «يَئِسَ» و إن التقديم للدلالة على تفخيم أمر اليوم، و تعظيم شأنه، لما فيه من خروج الدين من مرحلة القيام بالقيم الشخصي إلى مرحلة القيام بالقيم النوعي، و من صفة الظهور و الحدوث إلى صفة البقاء و الدوام.

و لا يقاس الآية بما سيأتي من قوله: «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» (الآية) فإن سياق الآيتين مختلف فقوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ»، في سياق الاعتراض، و قوله: «الْيَوْمَ أُحِلَّ»، في سياق الاستيناف، و الحكمان مختلفان: فحكم الآية الأولى تكويني مشتمل على البشرى من وجه و التحذير من وجه آخر، و حكم الثانية تشريعي منبئ عن الامتنان. فقوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ»، يدل على تعظيم أمر اليوم لاشتماله على خير عظيم الجدوى و هو يأس الذين كفروا من دين المؤمنين، و المراد بالذين كفروا- كما تقدمت الإشارة إليه- مطلق الكفار من الوثنيين و اليهود و النصارى و غيرهم لمكان الإطلاق.

و أما قوله: «فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ» فالنهي إرشادي لا مولوي، معناه أن لا موجب للخشية بعد يأس الذين كنتم في معرض الخطر من قبلهم- و من المعلوم أن الإنسان لا يهم بأمر بعد تمام اليأس من الحصول عليه و لا يسعى إلى ما يعلم ضلال سعيه فيه- فأنتم في أمن من ناحية الكفار، و لا ينبغي لكم مع ذلك الخشية منهم على دينكم فلا تخشوهم و اخشوني.

و من هنا يظهر أن المراد بقوله: «وَ اخْشَوْنِ» بمقتضى السياق أن اخشوني فيما كان عليكم أن تخشوهم فيه لو لا يأسهم و هو الدين و نزعه من أيديكم، و هذا نوع تهديد للمسلمين كما هو ظاهر، و لهذا لم نحمل الآية على الامتنان.

و يؤيد ما ذكرنا أن الخشية من الله سبحانه واجب على أي تقدير من غير أن يتعلق بوضع دون وضع، و شرط دون شرط، فلا وجه للإضراب من قوله: «فَلا تَخْشَوْهُمْ» إلى قوله: «وَ اخْشَوْنِ» لو لا أنها خشية خاصة في مورد خاص.

و لا تقاس الآية بقوله تعالى‏: «فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»: (آل عمران:
175) لأن الأمر بالخوف من الله في تلك الآية مشروط بالإيمان، و الخطاب مولوي، و مفاده أنه لا يجوز للمؤمنين أن يخافوا الكفار على أنفسهم بل يجب أن يخافوا الله سبحانه وحده.

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 178

فالآية تنهاهم عما ليس لهم بحق و هو الخوف منهم على أنفسهم سواء أمروا بالخوف من الله أم لا، و لذلك يعلل ثانيا الأمر بالخوف من الله بقيد مشعر بالتعليل،

و هو قوله‏: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» و هذا بخلاف قوله: «فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ» فإن خشيتهم هذه خشية منهم على دينهم، و ليست بمبغوضة لله سبحانه لرجوعها إلى ابتغاء مرضاته بالحقيقة، بل إنما النهي عنها لكون السبب الداعي إليها- و هو عدم يأس الكفار منه- قد ارتفع و سقط أثره فالنهي عنه إرشادي، فكذا الأمر بخشية الله نفسه، و مفاد الكلام أن من الواجب أن تخشوا في أمر الدين، لكن سبب الخشية كان إلى اليوم مع الكفار فكنتم تخشونهم لرجائهم في دينكم و قد يئسوا اليوم و انتقل السبب إلى ما عند الله فاخشوه وحده فافهم ذلك.

فالآية لمكان قوله: «فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ» لا تخلو عن تهديد و تحذير، لأن فيه أمرا بخشية خاصة دون الخشية العامة التي تجب على المؤمن على كل تقدير و في جميع الأحوال فلننظر في خصوصية هذه الخشية، و أنه ما هو السبب الموجب لوجوبها و الأمر بها.؟

لا إشكال في أن الفقرتين أعني قوله. «الْيَوْمَ يَئِسَ»، و قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي»، في الآية مرتبطان مسوقتان لغرض واحد، و قد تقدم بيانه فالدين الذي أكمله الله اليوم، و النعمة التي أتمها اليوم- و هما أمر واحد بحسب الحقيقة- هو الذي كان يطمع فيه الكفار و يخشاهم فيه المؤمنون فأيأسهم الله منه و أكمله و أتمه و نهاهم عن أن يخشوهم فيه، فالذي أمرهم بالخشية من نفسه فيه هو ذاك بعينه و هو أن ينزع الله الدين من أيديهم، و يسلبهم هذه النعمة الموهوبة.

و قد بين الله سبحانه أن لا سبب لسلب النعمة إلا الكفر بها، و هدد الكفور أشد التهديد، قال تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى‏ قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»: (الأنفال: 53) و قال تعالى: «وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ»: (البقرة: 211) و ضرب مثلا كليا لنعمه و ما يئول إليه أمر الكفر بها فقال‏ وَ «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ»: (النحل: 112).
فالآية أعني قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ- إلى قوله- دِيناً» تؤذن بأن دين المسلمين في أمن‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 179

من جهة الكفار، مصون من الخطر المتوجه من قبلهم، و أنه لا يتسرب إليه شي‏ء من طوارق الفساد و الهلاك إلا من قبل المسلمين أنفسهم، و إن ذلك إنما يكون بكفرهم بهذه النعمة التامة، و رفضهم هذا الدين الكامل المرضي، و يومئذ يسلبهم الله نعمته و يغيرها إلى النقمة، و يذيقهم لباس الجوع و الخوف، و قد فعلوا و فعل.

و من أراد الوقوف على مبلغ صدق هذه الآية في ملحمتها المستفادة من قوله: «فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ» فعليه أن يتأمل فيما استقر عليه حال العالم الإسلامي اليوم ثم يرجع القهقرى بتحليل الحوادث التاريخية حتى يحصل على أصول القضايا و أعراقها.

و لآيات الولاية في القرآن ارتباط تام بما في هذه الآية من التحذير و الإيعاد و لم يحذر الله العباد عن نفسه في كتابه إلا في باب الولاية، فقال فيها مرة بعد مرة: «وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ»: (آل عمران: 3028) و تعقيب هذا البحث أزيد من هذا خروج عن طور الكتاب.

قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» الإكمال و الإتمام متقاربا المعنى، قال الراغب: كمال الشي‏ء حصول ما هو الغرض منه. و قال: تمام الشي‏ء انتهاؤه إلى حد لا يحتاج إلى شي‏ء خارج عنه. و الناقص‏ ما يحتاج إلى شي‏ء خارج عنه.

و لك أن تحصل على تشخيص معنى اللفظين من طريق آخر، و هو أن آثار الأشياء التي لها آثار على ضربين. فضرب منها ما يترتب على الشي‏ء عند وجود جميع أجزائه- إن كان له أجزاء- بحيث لو فقد شيئا من أجزائه أو شرائطه لم يترتب عليه ذلك الأمر كالصوم فإنه يفسد إذا أخل بالإمساك في بعض النهار، و يسمى كون الشي‏ء على هذا الوصف بالتمام، قال تعالى: «ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ»: (البقرة: 187) و قال: «وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلًا»: (الأنعام: 115).

و ضرب آخر: الأثر الذي يترتب على الشي‏ء من غير توقف على حصول جميع أجزائه، بل أثر المجموع كمجموع آثار الأجزاء، فكلما وجد جزء ترتب عليه من الأثر ما هو بحسبه، و لو وجد الجميع ترتب عليه كل الأثر المطلوب منه، قال تعالى: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ»: (البقرة: 196) و قال:

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 180

«وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ»: (البقرة: 185) فإن هذا العدد يترتب الأثر على بعضه كما يترتب على كله، و يقال: تم لفلان أمره و كمل عقله: و لا يقال تم عقله و كمل أمره.

و أما الفرق بين الإكمال و التكميل، و كذا بين الإتمام و التتميم فإنما هو الفرق بين بابي الإفعال و التفعيل، و هو أن الإفعال بحسب الأصل يدل على الدفعة و التفعيل على التدريج، و إن كان التوسع الكلامي أو التطور اللغوي ربما يتصرف في البابين بتحويلهما إلى ما يبعد من مجرى المجرد أو من أصلهما كالإحسان و التحسين، و الإصداق و التصديق، و الإمداد و التمديد و الإفراط و التفريط، و غير ذلك، فإنما هي معان طرأت بحسب خصوصيات الموارد ثم تمكنت في اللفظ بالاستعمال.

و ينتج ما تقدم أن قوله: «أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» يفيد أن المراد بالدين هو مجموع المعارف و الأحكام المشرعة و قد أضيف إلى عددها اليوم شي‏ء و إن النعمة أيا ما كانت أمر معنوي واحد كأنه كان ناقصا غير ذي أثر فتمم و ترتب عليه الأثر المتوقع منه.

و النعمة بناء نوع و هي ما يلائم طبع الشي‏ء من غير امتناعه منه، و الأشياء و إن كانت بحسب وقوعها في نظام التدبير متصلة مرتبطة متلائما بعضها مع بعض، و أكثرها أو جميعها نعم إذا أضيفت إلى بعض آخر مفروض كما قال تعالى: «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها»: (إبراهيم: 34) و قال: «وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً»: (لقمان: 20).

إلا أنه تعالى وصف بعضها بالشر و الخسة و اللعب و اللهو و أوصاف أخر غير ممدوحة كما قال: «وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ»: (آل عمران: 178)، و قال: «وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ»: (العنكبوت: 64)، و قال: «لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ»: (آل عمران: 197) إلى غير ذلك.

و الآيات تدل على أن هذه الأشياء المعدودة نعما إنما تكون نعمة إذا وافقت الغرض الإلهي من خلقتها لأجل الإنسان فإنها إنما خلقت لتكون إمدادا إلهيا للإنسان يتصرف فيها في سبيل سعادته الحقيقية، و هي القرب منه سبحانه بالعبودية و الخضوع للربوبية، قال‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 181

تعالى: «وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»: (الذاريات: 56).

فكل ما تصرف فيه الإنسان للسلوك به إلى حضرة القرب من الله و ابتغاء مرضاته فهو نعمة، و إن انعكس الأمر عاد نقمة في حقه، فالأشياء في نفسها عزل، و إنما هي نعمة لاشتمالها على روح العبودية، و دخولها من حيث التصرف المذكور تحت ولاية الله التي هي تدبير الربوبية لشئون العبد،

و لازمه أن النعمة بالحقيقة هي الولاية الإلهية، و أن الشي‏ء إنما يصير نعمة إذا كان مشتملا على شي‏ء منها، قال تعالى‏: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ»: (البقرة: 257)، و قال تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى‏ لَهُمْ»: (محمد: 11) و قال في حق رسوله: «فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً»: (النساء: 65) إلى غير ذلك.

فالإسلام و هو مجموع ما نزل من عند الله سبحانه ليعبده به عباده دين، و هو من جهة اشتماله- من حيث العمل به- على ولاية الله و ولاية رسوله و أولياء الأمر بعده نعمة.

و لا يتم ولاية الله سبحانه أي تدبيره بالدين لأمور عباده إلا بولاية رسوله، و لا ولاية رسوله إلا بولاية أولي الأمر من بعده، و هي تدبيرهم لأمور الأمة الدينية بإذن من الله قال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» (النساء: 59) و قد مر الكلام في معنى الآية، و قال: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ»: (المائدة: 55) و سيجي‏ء الكلام في معنى الآية إن شاء الله تعالى.

فمحصل معنى الآية: اليوم- و هو اليوم الذي يئس فيه الذين كفروا من دينكم- أكملت لكم مجموع المعارف الدينية التي أنزلتها إليكم بفرض الولاية، و أتممت عليكم نعمتي و هي الولاية التي هي إدارة أمور الدين و تدبيرها تدبيرا إلهيا، فإنها كانت إلى اليوم ولاية الله و رسوله،

و هي أنما تكفي ما دام الوحي ينزل، و لا تكفي لما بعد ذلك من زمان انقطاع الوحي، و لا رسول بين الناس يحمي دين الله و يذب عنه بل من الواجب أن ينصب من يقوم بذلك، و هو ولي الأمر بعد رسول الله ص القيم على أمور الدين و الأمة.
فالولاية مشروعة واحدة، كانت ناقصة غير تامة حتى إذا تمت بنصب ولي الأمر

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 182

بعد النبي.

و إذا كمل الدين في تشريعه، و تمت نعمة الولاية فقد رضيت لكم من حيث الدين الإسلام الذي هو دين التوحيد الذي لا يعبد فيه إلا الله و لا يطاع فيه- و الطاعة عبادة- إلا الله و من أمر بطاعته من رسول أو ولي.
فالآية تنبئ عن أن المؤمنين اليوم في أمن بعد خوفهم،

و أن الله رضي لهم أن يتدينوا بالإسلام الذي هو دين التوحيد فعليهم أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئا بطاعة غير الله أو من أمر بطاعته. و إذا تدبرت قوله تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‏ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ»: (النور: 55) ثم طبقت فقرات الآية على فقرات قوله تعالى:

«الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» (إلخ) وجدت آية سورة المائدة من مصاديق إنجاز الوعد الذي يشتمل عليه آية سورة النور على أن يكون قوله: «يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً» مسوقا سوق الغاية كما ربما يشعر به قوله: «وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ».

و سورة النور قبل المائدة نزولا كما يدل عليه اشتمالها على قصة الإفك و آية الجد و آية الحجاب و غير ذلك... .

...

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 188

 

و في تفسير القمي،": في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ» (الآية) الشعائر: الإحرام و الطواف- و الصلاة في مقام إبراهيم و السعي بين الصفا و المروة، و المناسك كلها من شعائر الله، و من الشعائر إذا ساق الرجل بدنة في حج- ثم أشعرها أي قطع سنامها أو جلدها- أو قلدها ليعلم الناس أنها هدي- فلا يتعرض لها أحد. و إنما سميت الشعائر ليشعر الناس بها فيعرفوها، و قوله: «وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرامَ»- و هو ذو الحجة و هو من الأشهر الحرم، و قوله: «وَ لَا الْهَدْيَ»- و هو الذي يسوقه إذا أحرم المحرم، و قوله: «وَ لَا الْقَلائِدَ» قال:

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 189

يقلدها النعل التي قد صلى فيها. قوله: «وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ» قال: الذين يحجون البيت‏
و في المجمع، قال أبو جعفر الباقر (ع): نزلت هذه الآية في رجل من بني ربيعة يقال له: الحطم.
قال: و قال السدي: أقبل الحطم بن هند البكري حتى أتى النبي ص وحده- و خلف خيله خارج المدينة فقال: إلى ما تدعو؟ و قد كان النبي ص قال لأصحابه:

يدخل عليكم اليوم رجل من بني ربيعة- يتكلم بلسان شيطان- فلما أجابه النبي ص قال؟ أنظرني لعلي أسلم و لي من أشاوره، فخرج من عنده فقال رسول الله ص: لقد دخل بوجه كافر، و خرج بعقب غادر، فمر بسرح من سروح المدينة فساقه- و انطلق به و هو يرتجز و يقول:

قد لفها الليل بسواق حطم                ليس براعي إبل و لا غنم‏
 و لا بجزار على ظهر وضم           باتوا نياما و ابن هند لم ينم‏

بات يقاسيها غلام كالزلم                  خدلج الساقين ممسوح القدم‏

 ثم أقبل من عام قابل حاجا قد قلد هديا- فأراد رسول الله ص أن يبعث إليه فنزلت هذه الآية: «وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ».

قال: و قال ابن زيد: نزلت يوم الفتح- في ناس يؤمون البيت من المشركين يهلون بعمرة، فقال المسلمون: يا رسول الله- إن هؤلاء مشركون مثل هؤلاء دعنا نغير عليهم- فأنزل الله تعالى الآية.

أقول: روى الطبري القصة عن السدي و عكرمة، و القصة الثانية عن ابن زيد و روي في الدر المنثور، القصة الثانية عن ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم و فيه: أنه كان يوم الحديبية.

و القصتان جميعا لا توافقان ما هو كالمتسلم عليه عند المفسرين و أهل النقل أن سورة المائدة نزلت في حجة الوداع، إذ لو كان كذلك كان قوله‏: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا»: (البراءة: 28)، و قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ»: (البراءة: 5) الآيتان جميعا نازلتين قبل قوله: «وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ» و لا محل حينئذ للنهي عن التعرض للمشركين إذا قصدوا البيت الحرام.

و لعل شيئا من هاتين القصتين أو ما يشابههما هو السبب لما نقل عن ابن عباس و مجاهد

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 190

و قتادة و الضحاك: أن قوله: «وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ» منسوب بقوله: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» (الآية) و قوله‏: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ» (الآية)، و قد وقع حديث النسخ في تفسير القمي، و ظاهره أنه رواية.

و مع ذلك كله تأخر سورة المائدة نزولا يدفع ذلك كله، و قد ورد من طرق أئمة أهل البيت (ع) أنها ناسخة غير منسوخة على أن قوله تعالى فيها: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» (الآية) يأبى أن يطرء على بعض آيها نسخ و على هذا يكون مفاد قوله:

«وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ» كالمفسر بقوله بعد: «وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا»، أي لا تذهبوا بحرمة البيت بالتعرض لقاصديه لتعرض منهم لكم قبل هذا، و لا غير هؤلاء ممن صدوكم قبلا عن المسجد الحرام أن تعتدوا عليهم بإثم كالقتل أو عدوان كالذي دون القتل من الظلم بل تعاونوا على البر و التقوى.

و في الدر المنثور،: أخرج أحمد و عبد بن حميد: في هذه الآية يعني قوله: «وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ» (الآية): و البخاري في تاريخه، عن وابصة قال: أتيت رسول الله ص و أنا لا أريد- أن أدع شيئا من البر و الإثم إلا سألته عنه- فقال لي: يا وابصة أخبرك عما جئت تسأل عنه أم تسأل؟

قلت: يا رسول الله أخبرني- قال: جئت لتسأل عن البر و الإثم، ثم جمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري و يقول: يا وابصة استفت قبلك استفت نفسك البر- ما اطمأن إليه القلب و اطمأنت إليه النفس، و الإثم ما حاك في القلب، و تردد في الصدر و إن أفتاك الناس و أفتوك.

و فيه:، أخرج أحمد و عبد بن حميد و ابن حبان و الطبراني و الحاكم و صححه و البيهقي عن أبي أمامة: أن رجلا سأل النبي ص عن الإثم- فقال: ما حاك في نفسك فدعه.

قال: فما الإيمان؟ قال: من ساءته سيئته و سرته حسنته فهو مؤمن.
و فيه: أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و البخاري في الأدب و مسلم و الترمذي و الحاكم و البيهقي في الشعب عن النواس بن سمعان قال: سئل رسول الله ص عن البر و الإثم فقال: البر حسن الخلق و الإثم ما حاك في نفسك- و كرهت أن يطلع عليه الناس.

أقول: الروايات- كما ترى- تبتني على قوله تعالى: «وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها»: (الشمس: 8) و تؤيد ما تقدم من معنى الإثم.

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 191

و في المجمع: و اختلف في هذا يعني قوله: وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) فقيل: منسوخ بقوله: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ»- عن أكثر المفسرين، و قيل:

ما نسخ من هذه السورة شي‏ء، و لا من هذه الآية، لأنه لا يجوز أن يبتدأ المشركون- في الأشهر الحرم بالقتال إلا إذا قاتلوا": ثم قال و هو المروي عن أبي جعفر (ع) و في الفقيه، بإسناده عن أبان بن تغلب عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (ص) أنه قال: الميتة و الدم و لحم الخنزير معروف، و ما أهل لغير الله به يعني ما ذبح على الأصنام،

و أما المنخنقة فإن المجوس- كانوا لا يأكلون الذبائح و يأكلون الميتة، و كانوا يخنقون البقر و الغنم- فإذا خنقت و ماتت أكلوها، و الموقوذة كانوا يشدون أرجلها- و يضربونها حتى تموت فإذا ماتت أكلوها، و المتردية كانوا يشدون عينها- و يلقونها عن السطح فإذا ماتت أكلوها، و النطيحة كانوا يتناطحون بالكباش-

فإذا مات أحدهما أكلوه، و ما أكل السبع إلا ما ذكيتم- فكانوا يأكلون ما يقتله الذئب و الأسد و الدب- فحرم الله عز و جل ذلك، و ما ذبح على النصب كانوا يذبحون لبيوت النيران، و قريش كانوا يعبدون الشجر و الصخر فيذبحون لهما، و أن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق- قال: كانوا يعمدون إلى جزور فيجتزون عشرة أجزاء- ثم يجتمعون عليه فيخرجون السهام- فيدفعونها إلى رجل و السهام عشرة، و هي: سبعة لها أنصباء، و ثلاثة لا أنصباء لها.

فالتي لها أنصباء: الفذ و التوأم و المسبل- و النافس و الحلس و الرقيب و المعلى، فالفذ له سهم، و التوأم له سهمان، و المسبل له ثلاثة أسهم، و النافس له أربعة أسهم، و الحلس له خمسة أسهم، و الرقيب له ستة أسهم، و المعلى له سبعة أسهم.

و التي لا أنصباء لها: السفيح، و المنيح، و الوغد- و ثمن الجزور على من لم يخرج له من الأنصباء شي‏ء- و هو القمار فحرمه الله.

أقول: و ما ذكر في الرواية في تفسير المنخنقة و الموقوذة و المتردية من قبيل البيان بالمثال كما يظهر من الرواية التالية، و كذا ذكر قوله:، إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ‏ مع قوله: «وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ» و قوله: «ذلِكُمْ فِسْقٌ‏ مع قوله‏ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ» لا دلالة فيه على التقييد.
و في تفسير العياشي، عن عيوق بن قسوط: عن أبي عبد الله (ع) في قول الله:

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 192

«الْمُنْخَنِقَةُ» قال: التي تنخنق في رباطها «وَ الْمَوْقُوذَةُ» المريضة التي لا تجد ألم الذبح- و لا تضطرب و لا تخرج لها دم- وَ «الْمُتَرَدِّيَةُ» التي تردى من فوق بيت أو نحوه- «وَ النَّطِيحَةُ» التي تنطح صاحبها.
و فيه، عن الحسن بن علي الوشاء عن أبي الحسن الرضا (ع) قال: سمعته يقول: المتردية و النطيحة و ما أكل السبع- أن أدركت ذكاته فكله.

و فيه، عن محمد بن عبد الله عن بعض أصحابه قال: قلت لأبي عبد الله (ع):
جعلت فداك لم حرم الله الميتة و الدم و لحم الخنزير؟ فقال: إن الله تبارك و تعالى لم يحرم ذلك على عباده- و أحل لهم ما سواه من رغبة منه- تبارك و تعالى- فيما حرم عليهم، و لا زهد فيما أحل لهم، و لكنه خلق الخلق، و علم ما يقوم به أبدانهم و ما يصلحهم- فأحله و أباحه تفضلا منه عليهم لمصلحتهم، و علم ما يضرهم فنهاهم عنه- و حرمه عليهم ثم أباحه للمضطر- و أحله لهم في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلا به- فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك.

ثم قال: أما الميتة فإنه لا يدنو منها أحد- و لا يأكلها إلا ضعف بدنه، و نحل جسمه، و وهنت قوته، و انقطع نسله، و لا يموت آكل الميتة إلا فجأة.

و أما الدم فإنه يورث الكلب، و قسوة القلب، و قلة الرأفة و الرحمة، لا يؤمن أن يقتل ولده و والديه، و لا يؤمن على حميمه، و لا يؤمن على من صحبه.

و أما لحم الخنزير فإن الله مسخ قوما- في صور شتى شبه الخنزير و القرد و الدب- و ما كان من الأمساخ- ثم نهى عن أكل مثله- لكي لا ينقع بها و لا يستخف بعقوبته.

و أما الخمر فإنه حرمها لفعلها و فسادها، و قال. إن مدمن الخمر كعابد وثن- و يورثه ارتعاشا و يذهب بنوره، و ينهدم مروته، و يحمله على أن يكسب على المحارم- من سفك الدماء و ركوب الزنا، و لا يؤمن إذا سكر أن يثبت على حرمة و هو لا يعقل ذلك، و الخمر لم يؤد شاربها إلا إلى كل شر.
(بحث روائي آخر)

في غاية المرام، عن أبي المؤيد موفق بن أحمد في كتاب فضائل علي، قال: أخبرني‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 193

سيد الحفاظ شهردار بن شيرويه بن شهردار الديلمي فيما كتب إلي من همدان، أخبرنا أبو الفتح عبدوس بن عبد الله بن عبدوس الهمداني كتابة، حدثنا عبد الله بن إسحاق البغوي، حدثنا الحسين بن عليل الغنوي، حدثنا محمد بن عبد الرحمن الزراع، حدثنا قيس بن حفص، حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو هريرة عن أبي سعيد الخدري: أن النبي ص يوم دعا الناس إلى غدير خم- أمر بما تحت الشجرة من شوك فقم، و ذلك يوم الخميس- يوم دعا الناس إلى علي و أخذ بضبعه- ثم رفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطيه-

ثم لم يفترقا حتى نزلت هذه الآية: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ- وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً»- فقال رسول الله ص: الله أكبر على إكمال الدين و إتمام النعمة- و رضا الرب برسالتي و الولاية لعلي، ثم قال: اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله.

و قال حسان بن ثابت: أ تأذن لي يا رسول الله أن أقول أبياتا؟ قال: قل ينزله الله تعالى، فقال حسان بن ثابت:
يناديهم يوم الغدير نبيهم‏  بخم و أسمع بالنبي مناديا
 

بأني مولاكم نعم و وليكم‏  * فقالوا و لم يبدو هناك التعاميا
 

إلهك مولانا و أنت ولينا  * و لا تجدن في الخلق للأمر عاصيا
 

فقال له قم يا علي فإنني‏  * رضيتك من بعدي إماما و هاديا
 

و عن كتاب نزول القرآن، في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للحافظ أبي نعيم رفعه إلى قيس بن الربيع، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري": مثله، و قال في آخر الأبيات:
فمن كنت مولاه فهذا وليه‏  * فكونوا له أنصار صدق مواليا
 

هناك دعا اللهم وال وليه‏  * و كن للذي عادى عليا معاديا
 

و عن نزول القرآن، أيضا يرفعه إلى علي بن عامر عن أبي الحجاف عن الأعمش عن عضة قال": نزلت هذه الآية على رسول الله ص- في علي بن أبي طالب: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ»- و قد قال الله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ- وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 194

نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً».

و عن إبراهيم بن محمد الحمويني قال: أنبأني الشيخ تاج الدين أبو طالب علي بن الحسين بن عثمان بن عبد الله الخازن، قال: أنبأنا الإمام برهان الدين ناصر بن أبي المكارم المطرزي إجازة، قال: أنبأنا الإمام أخطب خوارزم أبو المؤيد موفق بن أحمد المكي الخوارزمي، قال: أنبأني سيد الحفاظ في ما كتب إلي من همدان، أنبأنا الرئيس أبو الفتح كتابة، حدثنا عبد الله بن إسحاق البغوي، نبأنا الحسن بن عقيل الغنوي، نبأنا محمد بن عبد الله الزراع، نبأنا قيس بن حفص قال: حدثني علي بن الحسين العبدي عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري، و ذكر مثل الحديث الأول.

و عن الحمويني أيضا عن سيد الحفاظ و أبو منصور شهردار بن شيرويه بن شهردار الديلمي، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد المقرئ الحافظ عن أحمد بن عبد الله بن أحمد، قال: نبأنا محمد بن أحمد بن علي، قال: نبأنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، قال: نبأنا يحيى الحماني، قال: حدثنا قيس بن الربيع عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري، و ذكر مثل الحديث الأول.

قال: قال الحمويني عقيب هذا الحديث: هذا حديث له طرق كثيرة إلى أبي سعيد سعد بن مالك الخدري الأنصاري.

و عن المناقب الفاخرة، للسيد الرضي- رحمه الله- عن محمد بن إسحاق، عن أبي جعفر، عن أبيه عن جده قال: لما انصرف رسول الله ص من حجة الوداع نزل أرضا- يقال له: ضوجان، فنزلت هذه الآية: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ- وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ»- فلما نزلت عصمته من الناس نادى:

الصلاة جامعة فاجتمع الناس إليه، و قال: من أولى منكم بأنفسكم: فضجوا بأجمعهم فقالوا: الله و رسوله فأخذ بيد علي بن أبي طالب، و قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله- لأنه مني و أنا منه، و هو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي- و كانت آخر فريضة فرضها الله تعالى على أمة محمد- ثم أنزل الله تعالى على نبيه: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي- وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً»-.

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 195

قال أبو جعفر: فقبلوا من رسول الله ص كل ما أمرهم الله- من الفرائض في الصلاة و الصوم و الزكاة و الحج، و صدقوه على ذلك-.

قال ابن إسحاق: قلت لأبي جعفر: ما كان ذلك؟ قال- لتسع‏ «1» عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة عشرة- عند منصرفه من حجة الوداع، و كان بين ذلك و بين النبي ص مائة يوم- و كان سمع‏ «2» رسول الله بغدير خم اثنا عشر.

و عن المناقب، لابن المغازلي يرفعه إلى أبي هريرة قال: من صام يوم ثمانية عشر من ذي الحجة- كتب الله له صيامه ستين شهرا، و هو يوم غدير خم، بها أخذ النبي بيعة علي بن أبي طالب، و قال: من كنت مولاه فعلي مولاه- اللهم وال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره، فقال له عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب- أصبحت مولاي و مولى كل مؤمن و مؤمنة، فأنزل الله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ».

و عن المناقب، لابن مردويه و كتاب سرقات الشعر، للمرزباني عن أبي سعيد الخدري مثل ما تقدم عن الخطيب.

أقول: و روى الحديثين في الدر المنثور، عن أبي سعيد و أبي هريرة و وصف سنديهما بالضعف. و قد روي بطرق كثيرة تنتهي من الصحابة (لو دقق فيها) إلى عمر بن الخطاب و علي بن أبي طالب و معاوية و سمرة: أن الآية نزلت يوم عرفة من حجة الوداع و كان يوم الجمعة، و المعتمد منها ما روي عن عمر فقد رواه عن الحميدي و عبد بن حميد و أحمد البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن حبان و البيهقي في سننه عن طارق بن شهاب عن عمر، و عن ابن راهويه في مسنده و عبد بن حميد عن أبي العالية عن عمر، و عن ابن جرير عن قبيصة بن أبي ذؤيب عن عمر، و عن البزاز عن ابن عباس، و الظاهر أنه يروي عن عمر.

ثم أقول: أما ما ذكره من ضعف سندي الحديثين فلا يجديه في ضعف المتن شيئا فقد أوضحنا في البيان المتقدم إن مفاد الآية الكريمة لا يلائم غير ذلك من جميع الاحتمالات‏
______________________________
(1) سبع في نسخة البرهان.
(2) سمى رسول الله بغدير خم اثنا عشر رجلا. نسخة البرهان‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 196

و المعاني المذكورة فيها، فهاتان الروايتان و ما في معناهما هي الموافقة للكتاب من بين جميع الروايات فهي المتعينة للأخذ.

على أن هذه الأحاديث الدالة على نزول الآية في مسألة الولاية- و هي تزيد على عشرين حديثا من طرق أهل السنة و الشيعة- مرتبطة بما ورد في سبب نزول قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ»: الآية (المائدة: 67) و هي تربو على خمسة عشر حديثا رواها الفريقان، و الجميع مرتبط بحديث الغدير: «من كنت مولاه فعلي مولاه» و هو حديث متواتر مروي عن جم غفير من الصحابة، اعترف بتواتره جمع كثير من علماء الفريقين.

و من المتفق عليه أن ذلك كان في منصرف رسول الله ص من مكة إلى المدينة.

و هذه الولاية (لو لم تحمل على الهزل و التهكم) فريضة من الفرائض كالتولي و التبري اللذين نص عليهما القرآن في آيات كثيرة، و إذا كان كذلك لم يجز أن يتأخر جعلها نزول الآية أعني قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ»، فالآية إنما نزلت بعد فرضها من الله سبحانه، و لا اعتماد على ما ينافي ذلك من الروايات لو كانت منافية.
و أما ما رواه من الرواية فقد عرفت ما ينبغي أن يقال فيها غير أن هاهنا أمرا يجب التنبه له، و هو أن التدبر في الآيتين الكريمتين: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» (الآية) على ما سيجي‏ء من بيان معناه، و قوله:

«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» (الآية) و الأحاديث الواردة من طرق الفريقين فيهما و روايات الغدير المتواترة، و كذا دراسة أوضاع المجتمع الإسلامي الداخلية في أواخر عهد رسول الله ص و البحث العميق فيها يفيد القطع بأن أمر الولاية كان نازلا قبل يوم الغدير بأيام، و كان النبي ص يتقي الناس في إظهاره، و يخاف أن لا يتلقوه بالقبول أو يسيئوا القصد إليه فيختل أمر الدعوة، فكان لا يزال يؤخر تبليغه الناس من يوم إلى غد حتى نزل قوله:

«يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ» (الآية) فلم يمهل في ذلك.
و على هذا فمن الجائز أن ينزل الله سبحانه معظم السورة و فيه قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» (الآية) و ينزل معه أمر الولاية كل ذلك يوم عرفة فأخر النبي ص بيان الولاية إلى غدير خم، و قد كان تلا آيتها يوم عرفة و أما اشتمال بعض الروايات على‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 197

نزولها يوم الغدير فليس من المستبعد أن يكون ذلك لتلاوته (ص) الآية مقارنة لتبليغ أمر الولاية لكونها في شأنها.

و على هذا فلا تنافي بين الروايات أعني ما دل على نزول الآية في أمر الولاية، و ما دل على نزولها يوم عرفة كما روي عن عمر و علي و معاوية و سمرة، فإن التنافي إنما كان يتحقق لو دل أحد القبيلين على النزول يوم غدير خم، و الآخر على النزول على يوم عرفة.
و أما ما في القبيل الثاني من الروايات أن الآية تدل على كمال الدين بالحج و ما أشبهه فهو من فهم الراوي لا ينطبق به الكتاب و لا بيان من النبي ص يعتمد عليه.

و ربما استفيد هذا الذي ذكرناه‏

مما رواه العياشي في تفسيره، عن جعفر بن محمد بن محمد الخزاعي عن أبيه قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: لما نزل رسول الله ص عرفات يوم الجمعة أتاه جبرئيل- فقال له: إن الله يقرئك السلام، و يقول لك: قل لأمتك: اليوم أكملت دينكم بولاية علي بن أبي طالب- و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا- و لست أنزل عليكم بعد هذا، قد أنزلت عليكم الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج، و هي الخامسة، و لست أقبل عليكم بعد هذه الأربعة إلا بها.

على أن فيما نقل عن عمر من نزول الآية يوم عرفة إشكالا آخر، و هو أنها جميعا تذكر أن بعض أهل الكتاب‏

و في بعضها": أنه كعب قال لعمر: إن في القرآن آية- لو نزلت مثلها علينا معشر اليهود- لاتخذنا اليوم الذي نزلت فيه عيدا، و هي قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» (الآية) فقال له عمر: و الله إني لأعلم اليوم- و هو يوم عرفة من حجة الوداع.

و لفظ ما رواه ابن راهويه و عبد بن حميد عن أبي العالية هكذا": قال كانوا عند عمر فذكروا هذه الآية، فقال رجل من أهل الكتاب: لو علمنا أي يوم نزلت هذه الآية لاتخذناه عيدا، فقال عمر الحمد لله الذي جعله لنا عيدا- و اليوم الثاني، نزلت يوم عرفة- و اليوم الثاني يوم النحر فأكمل لنا الأمر- فعلمنا أن الأمر بعد ذلك في انتقاص.

و ما يتضمنه آخر الرواية مروي بشكل آخر ففي الدر المنثور: عن ابن أبي شيبة و ابن جرير عن عنترة قال: لما نزلت‏ «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ»- و ذلك يوم الحج الأكبر بكى عمر- فقال له النبي ص ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا- فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شي‏ء قط إلا نقص، فقال: صدقت.

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 198

و نظيره الرواية بوجه رواية أخرى رواها أيضا في الدر المنثور، عن أحمد عن علقمة بن عبد الله المزني قال: حدثني رجل قال: كنت في مجلس عمر بن الخطاب- فقال عمر لرجل من القوم: كيف سمعت رسول الله ص ينعت الإسلام؟ قال: سمعت رسول الله ص يقول: إن الإسلام بدئ جذعا- ثم ثنيا ثم رباعيا ثم سدسيا ثم بازلا. قال عمر: فما بعد البزول إلا النقصان.

فهذه الروايات- كما ترى- تروم بيان أن معنى نزول الآية يوم عرفة إلفات نظر الناس إلى ما كانوا يشاهدونه من ظهور أمر الدين و استقلاله بمكة في الموسم، و تفسير إكمال الدين و إتمام النعمة بصفاء جو مكة و محوضة الأمر للمسلمين يومئذ فلا دين يعبد به يومئذ هناك إلا دينهم من غير أن يخشوا أعداءهم و يتحذروا منهم.

و بعبارة أخرى المراد بكمال الدين و تمام النعمة كمال ما بأيديهم يعملون به من غير أن يختلط بهم أعداؤهم أو يكلفوا بالتحذر منهم دون الدين بمعنى الشريعة المجعولة عند الله من المعارف و الأحكام، و كذا المراد بالإسلام ظاهر الإسلام الموجود بأيديهم في مقام العمل.

و إن شئت فقل: المراد بالدين صورة الدين المشهودة من أعمالهم، و كذا في الإسلام، فإن هذا المعنى هو الذي يقبل الانتقاص بعد الإزدياد.
و أما كليات المعارف و الأحكام المشرعة من الله فلا يقبل الانتقاص بعد الإزدياد الذي يشير إليه قوله في الرواية: «أنه لم يكمل شي‏ء قط إلا نقص» فإن ذلك سنة كونية تجري أيضا في التاريخ و الاجتماع بتبع الكون، و أما الدين فإنه غير محكوم بأمثال هذه السنن و النواميس إلا عند من قال: إن الدين سنة اجتماعية متطورة متغيرة كسائر السنن الاجتماعية.

إذا عرفت ذلك علمت أنه يرد عليه أولا: أن ما ذكر من معنى كمال الدين لا يصدق عليه قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» و قد مر بيانه.

و ثانيا: أنه كيف يمكن أن يعد الله سبحانه الدين بصورته التي كان يتراءى عليها كاملا و ينسبه إلى نفسه امتنانا بمجرد خلو الأرض من ظاهر المشركين، و كون المجتمع على ظاهر الإسلام فارغا من أعدائهم المشركين، و فيهم من هو أشد من المشركين إضرارا و إفسادا، و هم المنافقون على ما كانوا عليه من المجتمعات السرية و التسرب في داخل المسلمين، و إفساد الحال، و تقليب الأمور، و الدس في الدين، و إلقاء الشبه، فقد كان لهم نبأ عظيم‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 199

تعرض لذلك آيات جمة من القرآن كسورة المنافقين و ما في سور البقرة و النساء و المائدة و الأنفال و البراءة و الأحزاب و غيرها.

فليت شعري أين صار جمعهم؟ و كيف خمدت أنفاسهم؟ و على أي طريق بطل كيدهم و زهق باطلهم؟ و كيف يصح مع وجودهم أن يمتن الله يومئذ على المسلمين بإكمال ظاهر دينهم، و إتمام ظاهر النعمة عليهم، و الرضا بظاهر الإسلام بمجرد أن دفع من مكة أعداءهم من المسلمين، و المنافقون أعدى منهم و أعظم خطرا و أمر أثرا! و تصديق ذلك قوله تعالى يخاطب نبيه فيهم: «هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ»: (المنافقون: 4).

و كيف يمتن الله سبحانه و يصف بالكمال ظاهر دين هذا باطنه، أو يذكر نعمه بالتمام و هي مشوبة بالنقمة، أو يخبر برضاه صورة إسلام هذا معناه! و قد قال تعالى‏: «وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً»: (الكهف: 51) و قال في المنافقين:- و لم يرد إلا دينهم- «فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى‏ عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ»: (البراءة: 96) و الآية بعد هذا كله مطلقة لم تقيد شيئا من الإكمال و الإتمام و الرضا و لا الدين و الإسلام و النعمة بجهة دون جهة.

فإن قلت: الآية- كما تقدمت الإشارة إليه- إنجاز للوعد الذي يشتمل عليه قوله تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‏ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً»: الآية (النور: 55).
فالآية كما ترى- تعدهم بتمكين دينهم المرضي لهم، و يحاذي ذلك من هذه الآية قوله:

«أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» و قوله: «وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» فالمراد بإكمال دينهم المرضي تمكينه لهم أي تخليصه من مزاحمة المشركين، و أما المنافقون فشأنهم شأن آخر غير المزاحمة، و هذا هو المعنى الذي تشير إليه روايات نزولها يوم عرفة، و يذكر القوم أن المراد به تخليص الأعمال الدينية و العاملين بها من المسلمين من مزاحمة المشركين.

قلت كون آية: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ»، من مصاديق إنجاز ما وعد في قوله: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» (الآية) و كذا كون قوله في هذه الآية: «أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ»، محاذيا لقوله:
«وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‏ لَهُمْ»، في تلك الآية و مفيدا معناه كل ذلك لا ريب فيه.
إلا أن آية سورة النور تبدأ بقوله: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ»

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 200

و هم طائفة خاصة من المسلمين ظاهر أعمالهم يوافق باطنها، و ما في مرتبة أعمالهم من الدين يحاذي و ينطبق على ما عند الله سبحانه من الدين المشرع، فتمكين دينهم المرضي لله سبحانه لهم إكمال ما في علم الله و إرادته من الدين المرضي بإفراغه في قالب التشريع، و جمع أجزائه عندهم بالإنزال ليعبدوه بذلك بعد إياس الذين كفروا من دينهم.

و هذا ما ذكرناه: أن معنى إكماله الدين إكماله من حيث تشريع الفرائض فلا فريضة مشرعة بعد نزول الآية لا تخليص أعمالهم و خاصة حجهم من أعمال المشركين و حجهم، بحيث لا تختلط أعمالهم بأعمالهم. و بعبارة أخرى يكون معنى إكمال الدين رفعه إلى أعلى مدارج الترقي حتى لا يقبل الانتقاص بعد الإزدياد.
و في تفسير القمي، قال: حدثني أبي، عن صفوان بن يحيى، عن العلاء، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال: آخر فريضة أنزلها الولاية- ثم لم ينزل بعدها فريضة ثم أنزل: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» بكراع الغميم، فأقامها رسول الله ص بالجحفة- فلم ينزل بعدها فريضة.

أقول: و روى هذا المعنى الطبرسي في المجمع، عن الإمامين: الباقر و الصادق (ع) و رواه العياشي في تفسيره عن زرارة عن الباقر (ع).

و في أمالي الشيخ، بإسناده، عن محمد بن جعفر بن محمد، عن أبيه أبي عبد الله (ع)، عن علي أمير المؤمنين (ع) قال: سمعت رسول الله ص يقول: بناء الإسلام على خمس خصال: على الشهادتين، و القرينتين. قيل له: أما الشهادتان فقد عرفنا فما القرينتان؟

قال: الصلاة و الزكاة- فإنه لا تقبل إحداهما إلا بالأخرى، و الصيام و حج بيت الله من استطاع إليه سبيلا، و ختم ذلك بالولاية فأنزل الله عز و جل: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي- وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً».

و في روضة الواعظين، للفتال، ابن الفارسي عن أبي جعفر (ع) و ذكر قصة خروج النبي ص للحج ثم نصبه عليا للولاية عند منصرفه إلى المدينة و نزول الآية، و فيه خطبة رسول الله ص يوم الغدير و هي خطبة طويلة جدا.

أقول: روى مثله الطبرسي في الإحتجاج، بإسناد متصل عن الحضرمي عن أبي جعفر الباقر (ع)، و روى نزول الآية في الولاية أيضا الكليني في الكافي، و الصدوق في العيون،

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏5، ص 201

جميعا مسندا عن عبد العزيز بن مسلم عن الرضا (ع)، و روى نزولها فيها أيضا الشيخ في أماليه بإسناده عن ابن أبي عمير عن المفضل بن عمر عن الصادق عن جده أمير المؤمنين (ع)، و روى ذلك أيضا الطبرسي في المجمع، بإسناده عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري، و روى ذلك الشيخ في أماليه، بإسناده عن إسحاق بن إسماعيل النيسابوري عن الصادق عن آبائه عن الحسن بن علي (ع) و قد تركنا إيراد الروايات على طولها إيثارا للاختصار فمن أرادها فليراجع محالها و الله الهادي.

نسخه شناسی

درباره مولف

کتاب شناسی

منابع: 

طباطبايى، سيد محمد حسين‏، الميزان فى تفسير القرآن‏، قم‏، دفتر انتشارات اسلامى جامعه‏ى مدرسين حوزه علميه قم‏، 1417 ق‏، چاپ پنجم‏، ، ج‏5، صص 167- 201