آیه 3، سوره مائده: مختصر الميزان فى تفسير القرآن

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص  14   

قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ‏ أمر الآية في حلولها محلها ثم في دلالتها عجيب، فإنك اذا تأملت صدر الآية أعني قوله تعالى:

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص 15

«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ‏- الى قوله-: ذلِكُمْ فِسْقٌ» و أضفت إليه ذيلها أعني قوله: «فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» وجدته كلاما تاما غير متوقف في تمام معناه و إفادته المراد منه الى شي‏ء من قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» الخ؛ أصلا، و ألفيته آية كاملة مماثلة لما تقدم عليها في النزول من الآيات الواقعة في سور الأنعام و النحل و البقرة المبيّنة لمحرمات الطعام، ففي سورة البقرة: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏ و يماثله ما في سورتي الأنعام و النحل.

و ينتج ذلك أن قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا» الخ؛ كلام معترض موضوع في وسط هذه الآية غير متوقف عليه لفظ الآية في دلالتها و بيانها، سواء قلنا: إن الآية نازلة في وسط الآية فتخللت بينها من أول ما نزلت، أو قلنا: إن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم هو الذي أمر كتّاب الوحي بوضع الآية في هذا الموضع مع انفصال الآيتين و اختلافهما نزولا. أو قلنا: إنها موضوعة في موضعها الذي هي فيه عند التأليف من غير أن تصاحبها نزولا، فإن شيئا من هذه الاحتمالات لا يؤثر أثرا فيما ذكرناه من كون هذا الكلام المتخلل متعرضا اذا قيس الى صدر الآية و ذيلها.

و يؤيد ذلك أن جل الروايات الواردة في سبب النزول- لو لم يكن كلها، و هي أخبار جمّة- يخص قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا» الخ؛ بالذكر من غير أن يتعرض لأصل الآية أعني قوله: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ»، أصلا، و هذا يؤيد أيضا نزول قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ» الخ؛ نزولا مستقلا منفصلا عن الصدر و الذيل، و أن وقوع الآية في وسط الآية مستند الى تأليف النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أو الى تأليف المؤلفين بعده.
و يؤيده ما رواه في الدر المنثور عن عبد بن حميد عن الشعبي قال: نزل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم هذه الآية- و هو بعرفة- «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» و كان اذا أعجبته آيات جعلهن صدر السورة، قال: و كان جبرئيل يعلمه كيف ينسك.

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص 16

ثم إن هاتين الجملتين أعني قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» و قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» متقاربتان مضمونا، مرتبطتان مفهوما بلا ريب، لظهور ما بين ياس الكفار من دين المسلمين و بين إكمال دين المسلمين من الارتباط القريب، و قبول المضمونين لأن يمتزجا فيتركّبا مضمونا واحدا مرتبط الأجزاء، متصل الأطراف بعضها ببعض، مضافا الى ما بين الجملتين من الاتحاد في السياق.

و يؤيد ذلك ما نرى أن السلف و الخلف من مفسري الصحابة و التابعين و المتأخرين الى يومنا هذا أخذوا الجملتين متصلتين يتم بعضهما بعضا، و ليس ذلك إلا لأنهم فهموا من هاتين الجملتين ذلك، و بنوا على نزولهما معا، و اجتماعهما من حيث الدلالة على مدلول واحد.

و ينتج ذلك أن هذه الآية المعترضة أعني قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ‏- الى قوله-: وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» كلام واحد متصل بعض أجزائه ببعض مسوق لغرض واحد قائم بمجموع الجملتين من غير تشتت سواء قلنا بارتباطه بالآية المحيطة بها أو لم نقل، فإن ذلك لا يؤثر ألبتّة في كون هذا المجموع كلاما واحدا معترضا لا كلامين ذوي غرضين، و أن اليوم المتكرر في قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا»، و في قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ»، أريد به يوم واحد يئس فيه الكفار و أكمل فيه الدين.

ثم ما المراد بهذا اليوم الواقع في قوله تعالى: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ»؟ فهل المراد به زمان ظهور الاسلام ببعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و دعوته فيكون المراد أن اللّه أنزل إليكم الإسلام، و أكمل لكم الدين و أتم عليكم النعمة و أيأس منكم الكفار؟

لا سبيل الى ذلك لأن ظاهر السياق أنه كان لهم دين كان الكفار يطمعون في إبطاله أو تغييره، و كان المسلمون يخشونهم على دينهم فأيأس اللّه الكافرين مما طمعوا فيه و آمن المسلمين و أنه كان ناقصا فأكمله اللّه و أتم نعمته عليهم، و لم يكن لهم قبل الاسلام دين حتى يطمه فيه الكفار أو يكمله اللّه و يتم نعمته عليهم.

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص 17

على أن لازم ما ذكر من المعنى أن يتقدم قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ»، على قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا»، حتى يستقيم الكلام في نظمه.

أو أن المراد باليوم هو ما بعد فتح مكة حيث أبطل اللّه فيه كيد مشركي قريش و أذهب شوكتهم، و هدم فيه بنيان دينهم، و كسر أصنامهم، فانقطع رجاؤهم أن يقوموا على ساق، و يضادوا الاسلام و يمانعوا نفوذ أمره و انتشار صيته؟

لا سبيل الى ذلك أيضا فإن الآية تدل على إكمال الدين و إتمام النعمة و لما يكمل الدين بفتح مكة- و كان في السنة الثامنة من الهجرة- فكم من فريضة نزلت بعد ذلك، و كم من حلال أو حرام شرّع فيما بينه و بين رحلة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم.

على أن قوله: «الَّذِينَ كَفَرُوا» يعم جميع مشركي العرب و لم يكونوا جميعا آئسين من دين المسلمين، و من الدليل عليه أن كثيرا من المعارضات و المواثيق على عدم التعرض كانت باقية بعد على اعتبارها و احترامها، و كانوا يحجون حجة الجاهلية على سنن المشركين، و كانت النساء يحججن عاريات مكشوفات العورة حتى بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عليا عليه السّلام بآيات البراءة فأبطل بقايا رسوم الجاهلية.

أو أن المراد باليوم ما بعد نزول البراءة من الزمان حيث انبسط الاسلام على جزيرة العرب تقريبا، و عفت آثار الشرك، و ماتت سنن الجاهلية فما كان المسلمون يرون في معاهد الدين و مناسك الحج أحدا من المشركين، وصفا لهم الأمر، و أبدلهم اللّه بعد خوفهم أمنا يعبدونه و لا يشركون به شيئا؟
لا سبيل الى ذلك فإن مشركي العرب و إن أيسوا من دين المسلمين بعد نزول آيات البراءة و طي بساط الشرك من الجزيرة و إعفاء رسوم الجاهلية إلا أن الدين لم يكمل بعد، و قد نزلت فرائض و أحكام بعد ذلك، و منها ما في هذه السورة: (سورة المائدة)، و قد اتفقوا على نزولها في آخر عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و فيها شي‏ء كثير من أحكام الحلال و الحرام و الحدود

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص 18

و القصاص.

فتحصّل أنه لا سبيل الى احتمال أن يكون المراد باليوم في الآية معناه الوسيع مما يناسب مفاد الآية بحسب بادى‏ء النظر كزمان ظهور الدعوة الاسلامية أو ما بعد فتح مكة من الزمان، أو ما بعد نزول آيات البراءة فلا سبيل إلا أن يقال: ان المراد باليوم يوم نزول الآية نفسها، و هو يوم نزول السورة إن كان قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا»، معترضا مرتبطا بحسب المعنى بالآية المحيطة بها، أو بعد نزول سورة المائدة في أواخر عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و ذلك لمكان قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ».

فهل المراد باليوم يوم فتح مكة بعينه؟ أو يوم نزول البراءة بعينه؟ يكفي في فساده ما تقدم من الإشكالات الواردة على الاحتمال الثاني و الثالث المتقدمين.

أو أن المراد باليوم هو يوم عرفة من حجة الوداع كما ذكره كثير من المفسرين و به ورد بعض الروايات؟ فما المراد من يأس الذين كفروا يومئذ من دين المسلمين فإن كان المراد باليأس من الدين يأس مشركي قريش من الظهور على دين المسلمين فقد كان ذلك يوم الفتح عام ثمانية لا يوم عرفة من السنة العاشرة، و إن كان المراد يأس مشركي العرب من ذلك فقد كان ذلك عند نزول البراءة و هو في السنة التاسعة من الهجرة، و إن كان المراد به يأس جميع الكفار الشامل لليهود و النصارى و المجوس و غيرهم- و ذلك الذي يقتضيه إطلاق قوله:

«الَّذِينَ كَفَرُوا»- فهؤلاء لم يكونوا آئسين من الظهور على المسلمين بعد، و لما يظهر للإسلام قوة و شوكة و غلبة في خارج جزيرة العرب اليوم.

و من جهة أخرى يجب أن نتأمل فيما لهذا اليوم- و هو يوم عرفة تاسع ذي الحجة سنة عشر من الهجرة- من الشأن الذي يناسب قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» في الآية.

فربما أمكن أن يقال: إن المراد به إكمال أمر الحج بحضور النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بنفسه فيه، و تعليمه‏

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص 19

الناس تعليما عمليا مشفوعا بالقول.

لكن فيه أن مجرد تعليمه الناس مناسك حجهم- و قد أمرهم بحج التمتع و لم يلبث دون أن صار مهجورا، و قد تقدمه تشريع أركان الدين من صلاة و صوم و حج و زكاة و جهاد و غير ذلك- لا يصح أن يسمى إكمالا للدين، و كيف يصح أن يسمى تعليم شي‏ء من واجبات الدين إكمالا لذلك الواجب فضلا عن أن يسمى تعليم واجب من واجبات الدين لمجموع الدين؟

على أن هذا الاحتمال يوجب انقطاع رابطة الفقرة الاولى أعني قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» بهذه الفقرة أعني قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» و أي ربط ليأس الكفار عن الدين بتعليم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم حج التمتع للناس؟

و ربما أمكن أن يقال: إن المراد به إكمال الدين بنزول بقايا الحلال و الحرام في هذا اليوم في سورة المائدة، فلا حلال بعده و لا حرام، و بإكمال الدين استولى اليأس على قلوب الكفار، و لاحت آثاره على وجوههم.
لكن يجب أن نتبصّر في تمييز هؤلاء الكفار الذين عبر عنهم في الآية بقوله: «الَّذِينَ كَفَرُوا» على هذا التقدير و أنهم من هم؟ فإن أريد بهم كفار العرب فقد كان الإسلام عمّهم يومئذ و لم يكن فيهم من يتظاهر بغير الإسلام و هو الاسلام حقيقة، فمن هم الكفار الآئسون؟

و إن أريد بهم الكفار من غيرهم كسائر العرب من الامم و الأجيال فقد عرفت آنفا أنهم لم يكونوا آئسين يومئذ من الظهور على المسلمين.

ثم نتبصر في أمر انسداد باب التشريع بنزول سورة المائدة و انقضاء يوم عرفة فقد وردت روايات كثيرة لا يستهان بها عددا بنزول أحكام و فرائض بعد اليوم كما في آية الصيف‏ «1» و آيات الربا، حتى أنه روي عن عمر أنه قال في خطبة خطبها: من آخر القرآن نزولا آية
______________________________
(1). و هي آية الكلالة المذكورة في آخر سورة النساء.

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص 20

الربا، و إنه مات رسول اللّه و لم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم الى ما لا يريبكم، الحديث. و روى البخاري في الصحيح عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم آية الربا، الى غير ذلك من الروايات.

و ليس للباحث أن يضعّف الروايات فيقدم الآية عليها، لأن الآية ليست بصريحة و لا ظاهرة في كون المراد باليوم فيها هذا اليوم بعينه و إنما هو وجه محتمل يتوقف في تعينه على انتفاء كل احتمال ينافيه، و هذه الاخبار لا تقصر عن الاحتمال المجرد عن السند.

أو يقال: ان المراد بإكمال الدين خلوص البيت الحرام لهم، و إجلاء المشركين عنه حتى حجه المسلمون و هم لا يخاطلهم المشركون.

و فيه: أنه قد كان صفا الأمر للمسلمين فيما ذكر قبل ذلك بسنة، فما معنى تقييده باليوم في قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ»؟ على أنه لو سلّم كون هذا الخلوص إتماما للنعمة لم يسلّم كونه إكمالا للدين، و أي معنى لتسمية خلوص البيت إكمالا للدين، و ليس الدين إلا مجموعة من عقائد و أحكام، و ليس إكماله إلا أن يضاف الى عدد أجزائها و أبعاضها عدد؟ و أما صفاء الجو لإجرائها، و ارتفاع الموانع و المزاحمات عن العمل بها فليس يسمى إكمالا للدين البتة.

على أن إشكال يأس الكفار عن الدين على حاله.

و يمكن أن يقال: إن المراد من إكمال الدين بيان هذه المحرمات بيانا تفصيليا ليأخذ به المسلمون، و يجتنبوها و لا يخشوا الكفار في ذلك لأنهم قد يئسوا من دينهم بإعزاز اللّه المسلمين، و إظهار دينهم و تغليبهم على الكفار.

توضيح ذلك أن حكمة الاكتفاء في صدر الإسلام بذكر المحرمات الاربعة أعني الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير اللّه به الواقعة في بعض السور المكية و ترك تفصيل ما يندرج فيها مما كرهه الاسلام للمسلمين من سائر ما ذكر في هذه الآية الى ما بعد فتح مكة إنما هي التدرج في تحريم هذه الخبائث و التشديد فيها كما كان التدريج في تحريم الخمر لئلا ينفر

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص 21

العرب من الاسلام، و لا يروا فيه حرجا يرجون به رجوع من آمن فقرائهم و هم أكثر السابقين الأولين.
جاء هذا التفصيل للمحرمات بعد قوة الاسلام، و توسعة اللّه على أهله و إعزازهم، و بعد أن يئس المشركون بذلك من نفور أهله منه، و زال طمعهم في الظهور عليهم، و إزالة دينهم بالقوة القاهرة، فكان المؤمنون أجدر بهم لا يبالوهم بالمداراة، و لا يخافوهم على دينهم و على أنفسهم.

فالمراد باليوم يوم عرفة من عام حجة الوداع، و هو اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية المبينة لما بقي من الاحكام التي أبطل بها الاسلام بقايا مهانة الجاهلية و خبائثها و أوهامها، و المبشرة بظهور المسلمين على المشركين ظهورا تاما لا مطمع لهم في زواله، و لا حاجة معه الى شي‏ء من مداراتهم أو الخوف من عاقبة أمرهم.

فاللّه سبحانه يخبرهم في الآية أن الكفار أنفسهم قد يئسوا من زوال دينهم و أنه ينبغي لهم- و قد بدّلهم بضعفهم قوة، و بخوفهم أمنا، و بفقرهم غنى- أن لا يخشوا غيره تعالى، و ينتهوا عن تفاصيل ما نهى اللّه عنه في الآية ففيها كمال دينهم. كذا ذكره بعضهم بتلخيص ما في النقل.

و فيه: أن هذا القائل أراد الجمع بين عدة من الاحتمالات المذكورة ليدفع بكل احتمال ما يتوجه الى الاحتمال الآخر من الإشكال فتورّط بين المحاذير برمّتها و أفسد لفظ الآية و معناها جميعا.

فذهل عن أن المراد باليأس إن كان هو اليأس المستند الى ظهور الاسلام و قوته و هو ما كان بفتح مكة أو بنزول آيات البراءة لم يصح أن يقال يوم عرفة من السنة العاشرة: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» و قد كانوا يئسوا قبل ذلك بسنة أو سنتين، و إنما اللفظ الوافي له أن يقال: قد يئسوا كما عبر به القائل نفسه في كلامه في توضيح المعنى أو يقال: إنهم آئسون.

و ذهل عن أن هذا التدرج الذي ذكره في محرمات الطعام، و قاس تحريمها بتحريم الخمر إن‏

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص 22

أريد به التدرج من حيث تحريم بعض الافراد بعد بعض فقد عرفت أن الآية لا تشتمل على أزيد مما تشتمل عليه آيات التحريم السابقة نزولا على هذه الآية أعني آيات البقرة و الانعام و النحل، و أن المنخنقة و الموقوذة، الخ؛ من افراد ما ذكر فيها.

و إن أريد به التدرج من حيث البيان الإجمالي و التفصيلي خوفا من امتناع الناس من القبول ففي غير محله، فإن ما ذكر بالتصريح في السور السابقة على المائدة أعني الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير اللّه به أغلب مصداقا، و أكثر ابتلاء، و أوقع في قلوب الناس من أمثال المنخنقة و الموقوذة و غيرها، و هي أمور نادرة التحقق و شاذة الوجود، فما بال تلك الاربعة و هي أهم و أوقع و أكثر يصرح بتحريمها من غير خوف من دلك ثم يتّقى من ذكرها مالا يعبأ بأمره بالاضافة إليها فيتدرج في بيان حرمتها، و يخاف من التصريح بها؟

على أن ذلك لو سلّم لم يكن إكمالا للدين، و هل يصح ان يسمى تشريع الاحكام دينا؟
و إبلاغها و بيانها إكمالا للدين؟ و لو سلّم فإنما ذلك إكمال لبعض الدين و إتمام لبعض النعمة لا للكل و الجميع، و قد قال تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» فأطلق القوم من غير تقييد.

على أنه تعالى قد بيّن أحكاما كثيرة في ايام كثيرة، فما بال هذا الحكم في هذا اليوم خص بالمزية فسماه اللّه أو سمّى بيانه تفصيلا بإشمال الدين و إتمام النعمة؟

أو أن المراد بإكمال الدين إكماله بسد باب التشريع بعد هذه الآية المبيّنة لتفصيل محرمات الطعام، فما شأن الاحكام النازلة ما بين نزول المائدة و رحلة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم؟ بل ما شأن سائر الاحكام النازلة بعد هذه الآية في سورة المائدة؟ تأمّل فيه.

و بعد ذلك كله ما معنى قوله تعالى: «وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً»- و تقديره: اليوم رضيت، الخ؛- لو كان المراد بالكلام الامتنان بما ذكر في الآية من المحرمات يوم عرفة من السنة العاشرة؟ و ما وجه اختصاص هذا اليوم بأن اللّه سبحانه رضي فيه الاسلام دينا، و لا أمر

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص 23

يختص به اليوم مما يناسب هذا الرضى؟.
و بعد ذلك كله يرد على هذا الوجه أكثر الاشكالات الواردة على الوجوه السابقة أو ما يقرب منها مما تقدم بيانه، و لا نطيل بالإعادة.

أو أن المراد باليوم واحد من الايام التي بين عرفة و بين ورود النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم المدينة على بعض الوجوه المذكورة في معنى يأس الكفار و معنى إكمال الدين.

و فيه من الإشكال ما يرد على غيره على التفصيل المتقدّم.

فهذا شطر من البحث عن الآية بحسب السير فيما قيل أو يمكن ان يقال في توجيه معناها، و لنبحث عنها من طريق آخر يناسب طريق البحث الخاص بهذا الكتاب.

قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ»- و اليأس يقابل الرجاء، و الدين إنما نزل من عند اللّه تدريجا- يدل على ان الكفار قد كان لهم مطمع في دين المسلمين و هو الاسلام، و كانوا يرجون زواله بنحو منذ عهد و زمان، و أن أمرهم ذلك كان يهدد الاسلام حينا بعد حين، و كان الدين منهم على خطر يوما بعد يوم، و أن ذلك كان من حقه ان يحذر منه و يخشاه المؤمنون.

فقوله: «فَلا تَخْشَوْهُمْ»، تأمين منه سبحانه للمؤمنين مما كانوا منه على خطر، و من تسرّ به على خشية، قال تعالى: وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ‏ (آل عمران/ 69)، و قال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ (البقرة/ 109).

و الكفار لم يكونوا يتربصون الدوائر بالمسلمين إلا لدينهم، و لم يكن يضيق صدورهم و ينصدع قلوبهم إلا من جهة ان الدين كان يذهب بسوددهم و شرفهم و استرسالهم في اقتراف كل ما تهواه طباعهم، و تألفه و تعتاد به نفوسهم، و يختم على تمتعهم بكل ما يشتهون بلا قيد

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص 24

و شرط.

فقد كان الدين هو المبغوض عندهم دون اهل الدين الا من جهة دينهم الحق فلم يكن في قصدهم إبادة المسلمين و إفناء جمعهم بل إطفاء نور اللّه و تحكيم اركان الشرك المتزلزلة المضطربة به، و ردّ المؤمنين كفارا كما مر في قوله: «لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً» الآية؛ قال تعالى:

يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ‏ (الصف/ 9).

و قد قال تعالى‏ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ‏ (المؤمن/ 14).

و لذلك لم يكن لهم همّ إلا ان يقطعوا هذه الشجرة الطيبة من أصلها، و يهدموا هذا البنيان الرفيع من أسّه بتفتين المؤمنين و تسرية النفاق في جماعتهم و بث الشبه و الخرافات بينهم لإفساد دينهم.

و قد كانوا يأخذون بادى‏ء الامر يفتّرون عزيمة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و يستمحقون همّته في الدعوة الدينية بالمال و الجاه، كما يشير اليه قوله تعالى: وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى‏ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ يُرادُ (ص/ 6) أو بمخالطة أو مداهنة، كما يشير اليه قوله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ‏ (القلم/ 9)، و قوله: وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (الإسراء/ 74)، و قوله: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (الكافرون/ 3) على ما ورد في اسباب النزول.

و كان آخر ما يرجونه في زوال الدين، و موت الدعوة المحقة، أنه سيموت بموت هذا القائم بأمره و لا عقب له، فإنهم كانوا يرون أنه ملك في صورة النبوّة، و سلطنة في لباس الدعوة و الرسالة، فلو مات أو قتل لانقطع أثره و مات ذكره و ذكر دينه على ما هو المشهود عادة من حال السلاطين و الجبابرة أنهم مهما بلغ أمرهم من التعالي و التجبر و ركوب رقاب الناس فإن ذكرهم يموت بموتهم، و سننهم و قوانينهم الحاكمة بين الناس و عليهم تدفن معهم في قبورهم،

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص 25

يشير الى رجائهم هذا قوله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (الكوثر/ 3) على ما ورد في أسباب النزول.
فقد كان هذه و أمثالها أماني تمكّن الرجاء من نفوسهم، و تطمعهم في إطفاء نور الدين، و تزيّن لأوهامهم ان هذه الدعوة الطاهرة ليست الا أحدوثة ستكذبه المقادير و يقضي عليها و يعفو أثرها مرور الايام و الليالي، لكن ظهور الاسلام تدريجا على كل ما نازله من دين و أهله، و انتشار صيته، و اعتلاء كلمته بالشوكة و القوة قضى على هذه الأماني فيئسوا من إفساد عزيمة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و إيقاف همّته عند بعض ما كان يريده، و تطميعه بمال أو جاه.

قوة الاسلام و شوكته أيأستهم من جميع تلك الاسباب:- أسباب الرجاء- إلا واحدا، و هو أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم مقطوع العقب لا ولد له تخلفه في أمره، و يقوم على ما قام عليه من الدعوة الدينية فسيموت دينه بموته، و ذلك أن من البديهي ان كمال الدين من جهة أحكامه و معارفه- و إن بلغ ما بلغ- لا يقوى بنفسه على حفظ نفسه، و أن سنة من السنن المحدثة و الأديان المتبعة لا تبقى على نضارتها و صفائها لا بنفسها و لا بانتشار صيتها و لا بكثرة المنتحلين بها، كما أنها لا تنمحي و لا تنطمس بقهر أو جبر أو تهديد أو فتنة أو عذاب أو غير ذلك إلا بموت حملتها و حفظتها و القائمين بتدبير أمرها.

و من جميع ما تقدم يظهر ان تمام يأس الكفار إنما كان يتحقق عند الاعتبار الصحيح بأن ينصب اللّه لهذا الدين من يقوم مقام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في حفظه و تدبير أمره، و إرشاد الامة القائمة به فيتعقب ذلك يأس الذين كفروا من دين المسلمين لما شاهدوا خروج الدين عن مرحلة القيام بالحامل الشخصي الى مرحلة القيام بالحامل النوعي، و يكون ذلك إكمالا للدين بتحويله من صفة الحدوث الى صفة البقاء، و إتماما لهذه النعمة، و ليس يبعد ان يكون قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص 26

(البقرة/ 109) باشتماله على قوله: «حَتَّى يَأْتِيَ»، اشارة الى هذا المعنى.

و هذا يؤيد ما ورد من الروايات ان الآية نزلت يوم غدير خم، و هو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة عشر من الهجرة في أمر ولاية علي عليه السّلام، و على هذا فيرتبط الفقرتان أوضح الارتباط، و لا يرد عليه شي‏ء من الإشكالات المتقدمة.

ثم إنك بعدما عرفت معنى اليأس في الآية تعرف أن اليوم في قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» ظرف متعلق بقوله: «يَئِسَ» و أن التقديم للدلالة على تفخيم أمر اليوم، و تعظيم شأنه، لما فيه من خروج الدين من مرحلة القيام بالقيّم الشخصي الى مرحلة القيام بالقيّم النوعي، و من صفة الظهور و الحدوث الى صفة البقاء و الدوام.

و لا يقاس الآية بما سيأتي من قوله: «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» الآية؛ فإن سياق الآيتين مختلف فقوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ»، في سياق الاعتراض، و قوله: «الْيَوْمَ أُحِلَّ»، في سياق الاستيناف، و الحكمان مختلفان: فحكم الآية الاولى تكويني مشتمل على البشرى من وجه و التحذير من وجه آخر، و حكم الثانية تشريعي منبى‏ء عن الامتنان. فقوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ»، يدل على تعظيم أمر اليوم لاشتماله على خير عظيم الجدوى و هو يأس الذي كفروا من دين المؤمنين، و المراد بالذين كفروا- كما تقدمت الإشارة اليه- مطلق الكفار من الوثنيين و اليهود و النصارى و غيرهم لمكان الإطلاق.

و أما قوله: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ‏ فالنهي إرشادى لا مولوي، معناه أن لا موجب للخشية بعد يأس الذين كنتم في معرض الخطر من قبلهم- و من المعلوم ان الانسان لا يهم بأمر بعد تمام اليأس من الحصول عليه و لا يسعى الى ما يعلم ضلال سعيه فيه- فأنتم في أمن من ناحية الكفار، و لا ينبغي لكم مع ذلك الخشية منهم على دينكم فلا تخشوهم و اخشوني.

و من هنا يظهر أن المراد بقوله: «وَ اخْشَوْنِ» بمقتضى السياق أن اخشوني فيما كان عليكم ان‏

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص 27

تخشوهم فيه لو لا يأسهم و هو الدين و نزعه من أيديكم، و هذا نوع تهديد للمسلمين كما هو ظاهر، و لهذا لم نحمل الآية على الامتنان.

و يؤيد ما ذكرنا ان الخشية من اللّه سبحانه واجب على أي تقدير من غير ان يتعلق بوضع دون وضع، و شرط دون شرط، فلا وجه للإضراب من قوله: «فَلا تَخْشَوْهُمْ» الى قوله:

«وَ اخْشَوْنِ» لو لا أنها خشية خاصة في مورد خاص.

و لا تقاس الآية بقوله تعالى: فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏ (آل عمران/ 175) لأن الامر بالخوف من اللّه في تلك الآية مشروط بالإيمان، و الخطاب مولوي، و مفاده انه لا يجوز للمؤمنين ان يخافوا الكفار على أنفسهم بل يجب ان يخافوا اللّه سبحانه وحده.

فالآية تنهاهم عما ليس لهم بحق و هو الخوف منهم على أنفسهم سواء أمروا بالخوف من اللّه ام لا، و لذلك يعلل ثانيا الامر بالخوف من اللّه بغيد مشعر بالتعليل، و هو قوله: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» و هذا بخلاف قوله: «فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ» فإن خشيتهم هذه خشية منهم على دينهم، و ليست بمبغوضة للّه سبحانه لرجوعها الى ابتغاء مرضاته بالحقيقة، بل إنما النهي عنها لكون السبب الداعي اليها- و هو عدم يأس الكفار منه- قد ارتفع و سقط أثره فالنهي عنه إرشادي، فكذا الامر بخشية اللّه نفسه، و مفاد الكلام ان من الواجب أن تخشوا في امر الدين، لكن سبب الخشية كان الى اليوم مع الكفار فكنتم تخشونهم لرجائهم في دينكم و قد يئسوا اليوم و انتقل السبب الى ما عند اللّه فاخشوه وحده. فافهم ذلك.

فالآية لمكان قوله: «فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ» لا تخلو عن تهديد و تحذير، لأن فيه أمرا بخشية خاصة دون الخشية العامة التي تجب على المؤمن على كل تقدير و في جميع الاحوال، فلننظر في خصوصية هذه

الخشية، و أنه ما هو السبب الموجب لوجوبها و الامر بها؟.
لا إشكال في ان الفقرتين أعني قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ»، و قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي»، في الآية مرتبطتان مسوقتان لغرض واحد، و قد تقدم بيانه، فالدين‏

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص 28

الذي أكمله اللّه اليوم، و النعمة التي أتمها اليوم- و هما أمر واحد بحسب الحقيقة- هو الذي كان يطمع فيه الكفار و يخشاهم فيه المؤمنون فأيأسهم اللّه منه و أكمله و أتمه، و نهاهم عن أن يخشوهم فيه، فالذي أمرهم بالخشية من نفسه فيه هو ذاك بعينه و هو أن ينزع اللّه الدين من ايديهم، و يسلبهم هذه النعمة الموهوبة.
و قد بيّن اللّه سبحانه ان لا سبب لسلب النعمة إلا الكفر بها، و هدد الكفور أشد التهديد، قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى‏ قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏ (الأنفال/ 53) و قال تعالى: وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ‏ (البقرة/ 211) و ضرب مثلا كليا لنعمه و ما يؤول اليه أمر الكفر بها فقال‏ وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ‏ (النحل/ 112).

فالآية أعني قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ‏- الى قوله- دِيناً» تؤذن بأن دين المسلمين في أمن من جهة الكفار، مصون من الخطر المتوجه من قبلهم، و أنه لا يتسرب اليه شي‏ء من طوارق الفساد و الهلاك إلا من قبل المسلمين أنفسهم، و أن ذلك إنما يكون بكفرهم بهذه النعمة التامة، و رفضهم هذا الدين الكامل المرضي، و يومئذ يسلبهم اللّه نعمته و يغيرها الى النقمة، و يذيقهم لباس الجوع و الخوف، و قد فعلوا و فعل.
و من أراد الوقوف على مبلغ صدق هذه الآية في ملحمتها المستفادة من قوله: «فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ» فعليه ان يتأمل فيما استقر عليه حال العالم الاسلامي اليوم ثم يرجع القهقري بتحليل الحوادث التاريخية حتى يحصل على أصول القضايا و أعراقها.

و لآيات الولاية في القرآن ارتباط تام بما في هذه الآية، من التحذير و الإيعاد، و لم يحذّر اللّه العباد عن نفسه في كتابه إلا في باب الولاية، فقال فيها مرة بعد مرة وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ‏ (آل عمران/ 28 و 30) و تعقيب هذا البحث أزيد من هذا خروج عن طور الكتاب.

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص 29

قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً الإكمال و الإتمام متقاربا المعنى، قال الراغب: كمال الشي‏ء حصول ما هو الغرض منه. و قال: تمام الشي‏ء انتهاؤه الى حد لا يحتاج الى شي‏ء خارج عنه، و الناقص ما يحتاج الى شي‏ء خارج عنه.

و لك ان تحصل على تشخيص معنى اللفظين من طريق آخر، و هو ان آثار الاشياء التي لها آثار على ضربين. فضرب منها ما يترتب على الشي‏ء عند وجود جميع اجزائه- إن كان له اجزاء- بحيث لو فقد شيئا من أجزائه أو شرائطه لم يترتب عليه ذلك الامر كالصوم فإنه يفسد اذا أخل بالإمساك في بعض النهار، و يسمى كون الشي‏ء على هذا الوصف بالتمام، قال تعالى:

ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ‏ (البقرة/ 187)، و قال: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلًا (الأنعام/ 115).
و ضرب آخر: الأثر الذي يترتب على الشي‏ء من غير توقف على حصول جميع أجزائه، بل أثر المجموع كمجموع آثار الاجزاء، فكلما وجد جزء ترتب عليه من الاثر ما هو بحسبه، و لو وجد الجميع ترتب عليه كل الاثر المطلوب منه، قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ (البقرة/ 196) و قال: وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ (البقرة/ 185) فإن هذا العدد يترتب الأثر على بعضه كما

يترتب على كله، و يقال: تم لفلان امره و كمل عقله، و لا يقال: تمّ عقله و كمل امره.
و أما الفرق بين الإكمال و التكميل، و كذا بين الاتمام و التتميم فإنما هو الفرق بين بابي الإفعال و التفعيل، و هو ان الإفعال بحسب الاصل يدل الدفعة و التفعيل على التدريج، و إن كان التوسع الكلامي أو التطور اللغوي ربما يتصرف في البابين بتحويلهما الى ما يبعد من مجرى المجرد أو من أصلهما كالإحسان و التحسين، و الإصداق و التصديق، و الامداد و التمديد و الافراط و التفريط، و غير ذلك، فإنما هي معان طرأت بحسب خصوصيات الموارد ثم تمكنت‏

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص 30

في اللفظ بالاستعمال.

و ينتج ما تقدم ان قوله: «أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» يفيد أن المراد بالدين هو مجموع المعارف و الاحكام المشرّعة و قد أضيف الى عددها اليوم شي‏ء و أن النعمة أياما كانت امر معنوي واحد كأنه كان ناقصا غير ذي اثر فتمم و ترتب عليه الأثر المتوقع منه.

و النعمة بناء نوع و هي ما يلائم طبع الشي‏ء من غير امتناعه منه، و الاشياء و إن كانت بحسب وقوعها في نظام التدبير متصلة مرتبطة متلائما بعضها مع بعض، و أكثرها أو جميعها نعم اذا أضيفت الى بعض آخر مفروض كما قال تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها (إبراهيم/ 34) و قال: وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً (لقمان/ 20).
إلا انه تعالى وصف بعضها بالشر و الخمسة و اللعب و اللهو و أوصاف أخر غير ممدوحة كما قال: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ‏ (آل عمران/ 178)، و قال: وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ‏ (العنكبوت/ 64)، و قال: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (آل عمران/ 197) الى غير ذلك.

و الآيات تدل على ان هذه الاشياء المعدودة نعما إنما تكون نعمة اذا وافقت الغرض الالهي من خلقتها لأجل الانسان، فإنها إنما خلقت لتكون إمدادا إلهيا للانسان يتصرف فيها في سبيل سعادة الحقيقية، و هي القرب منه سبحانه بالعبودية و الخضوع للربوبية، قال تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏ (الذاريات/ 56).
فكل ما تصرّف فيه الانسان للسلوك به الى حضرة القرب من اللّه و ابتغاء مرضاته فهو نعمة، و إن انعكس الأمر عاد نقمة في حقه، فالاشياء في نفسها عزل، و إنما هي نعمة لاشتمالها على روح العبودية، و دخولها من حيث التصرف المذكور تحت ولاية اللّه التي هي تدبير

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص 31

الربوبية لشؤون العبد، و لازمه أن النعمة بالحقيقة هي الولاية الإلهية، و أن الشي‏ء إنما يصير نعمة اذا كان مشتملا على شي‏ء منها، قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ (البقرة/ 257)، و قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى‏ لَهُمْ‏ (محمد/ 11) و قال في حق رسوله: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (النساء/ 65) الى غير ذلك.

فالاسلام و هو مجموع ما نزل من عند اللّه سبحانه ليعبده به عباده دين، و هو من جهة اشتماله- من حيث العمل به- على ولاية اللّه و ولاية رسوله و أولياء الأمر بعده نعمة.

و لا يتم ولاية اللّه سبحانه أي تدبيره بالدين لامور عباده إلا بولاية رسوله، و لا ولاية رسوله إلا بولاية أولى الأمر من بعده، و هي تدبيرهم لامور الامة الدينية بإذن من اللّه، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‏ (النساء/ 59) و قد مر الكلام في معنى الآية، و قال: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ‏ (المائدة/ 55) و سيجي‏ء الكلام في معنى الآية إن شاء اللّه تعالى.

فمصّل معنى الآية: اليوم- و هو اليوم الذي يئس فيه الذين كفروا من دينكم- أكملت لكم مجموع المعارف الدينية التي أنزلتها إليكم بفرض الولاية، و أتممت عليكم نعمتي و هي الولاية التي هي إدارة أمور الدين و تدبيرها تدبيرا إلهيا، فإنها كانت الى اليوم ولاية اللّه و رسوله، و هي إنما تكفي ما دام الوحي ينزل، و لا تكفي لما بعد ذلك من زمان انقطاع الوحي، و لا رسول بين الناس يحمي دين اللّه و يذب عنه بل من الواجب أن ينصب من يقوم بذلك، و هو ولي الأمر بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم القيّم على أمور الدين و الامة.

فالولاية مشروعة واحدة، كانت ناقصة غير تامة حتى اذا تمت بنصب ولي الأمر بعد

مختصر الميزان فى تفسير القرآن، ج‏2، ص 32

النبي.

و اذا كمل الدين في تشريعه، و تمت نعمة الولاية فقد رضيت لكم من حيث الدين الاسلام الذي هو دين التوحيد الذي لا يعبد فيه إلا اللّه و لا يطاع فيه- و الطاعة عبادة- إلا اللّه و من أمر بطاعته من رسول أو ولي.

فالآية تنبى‏ء عن أن المؤمنين اليوم في أمن بعد خوفهم، و أن اللّه رضي لهم أن يتديّنوا بالاسلام الذي هو دين التوحيد فعليهم أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئا بطاعة غير اللّه أو من أمر بطاعته. و اذا تدبرت قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‏ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ‏ (النور/ 55) ثم طبقت فقرات الآية على فقرات قوله تعالى: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» الخ؛ وجدت آية سورة المائدة من مصاديق إنجاز الوعد الذي يشتمل عليه آية سورة النور على أن يكون قوله: «يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً» مسوقا سوق الغاية كما ربما يشعر به قوله: «وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ».

نسخه شناسی 

درباره مولف

کتاب شناسی

منابع: 

طباطبايى، سيد محمد حسين، الياس كلانترى‏، مختصر الميزان فى تفسير القرآن‏، تهران‏، اسوه( وابسته به سازمان اوقاف و امور خيريه)، 1421 ق‏، چاپ اول‏، ج 2، صص 14 - 32