آیه 3، سوره مائده: مواهب الرحمان في تفسير القرآن

مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج‏10 ، ص  303   

فيكون قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً كلاما معترضا اقحم في الآية الكريمة، و لا تتوقّف دلالة إحداهما على الاخرى، فكلّ واحد منهما له دلالته الخاصّة و يبينان أمرين، أحدهما محرّمات الطعام،

و الثاني كمال هذا الدين و تمامه و ظهوره على الشرك كلّه، و أنّه لا مطمع لأعداء هذا الدين في زواله. و يؤيّد ذلك أنّ أغلب الروايات الواردة في سبب نزول هذه الآية الشريفة- الّتي هي كثيرة- تخصّ قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً بالذكر و لم تتعرّض لصدر الآية المباركة و لا لذيلها، فيستفاد أنّ له نزولا مستقلا عن نزول الآية الشريفة، فإنّما وضع في وسط الآية لحكم، كما عرفت آنفا.

و لا يفرق في ذلك بين أن يكون الواضع هو اللّه تعالى، أو النبي صلّى اللّه عليه و آله بأمر منه عزّ و جلّ، أو كتّاب الوحي بأمر من النبي صلّى اللّه عليه و آله، فإنّه لا يضرّ في أصل المطلب.

كما أنّ الجملة المعترضة و إن تركّبت من جملتين إحداهما تدلّ على ظهور هذا الدين على الشرك و أمنه من كيدهم، فلا خوف من أعداء هذا الدين و لا حاجة إلى مداراتهم، و الجملة الثانية تبيّن كمال الدين و إتمام النعمة، إلّا أنّ مضمون كلتا الجملتين يرتبط أحدهما بالآخر،

و هو يدلّ على أنّ هذه الجملة المعترضة كلام واحد لا كلامان، كما تدلّ عليه الروايات الّتي وردت في شأن نزولها. و لا يضرّ في ذلك تكرار لفظ (اليوم) الّذي يراد به في كلتا الجملتين يوم واحد، و هو اليوم الّذي يئس فيه الكفّار و أكمل فيه الدين كما ستعرف.
ثمّ إنّ اليوم يطلق تارة و يراد به بياض النهار من حين طلوع الشمس الى غروبها، و يقابله الليل كما في قوله تعالى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ‏

مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج‏10، ص 304

حُسُوماً [سورة الحاقة، الآية: 7]، و يعبّر عنه في الفقه باليوم الإيجاري، و هو المراد حيث اطلق.
و اخرى: يطلق و يراد به من حين الفجر الى غروب الشمس، و يعبّر عنه في الفقه باليوم الصومي، قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ* [سورة البقرة، الآية: 196].

و ثالثة: يراد به مجموع الليل و النهار، كما في قوله تعالى: وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ‏ [سورة الحج، الآية: 28]، و قوله تعالى: قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ* [سورة الكهف، الآية: 19]، و قوله تعالى: وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ [سورة الحج، الآية: 47].

و رابعة: يراد به مقطع خاصّ من الزمان، سواء أ كان قصيرا أم طويلا، كما في قوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ‏ [سورة غافر، الآية: 49]، و قوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ* [سورة يونس، الآية: 3]، و قوله تعالى: وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ‏ [سورة آل عمران، الآية: 140]، و قوله تعالى: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ‏ [سورة آل عمران، الآية: 24].

الخامسة: يطلق و يراد به يوم القيامة الّذي يعدّ من أعظم الأيام في الشرائع السماويّة، و قد ذكره عزّ و جلّ في القرآن الكريم بأوصاف متعدّدة، قال تعالى:

فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [سورة يس، الآية: 54]، و قال تعالى: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ‏ [سورة يس، الآية: 55]، و قال تعالى: وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ‏ [سورة يس، الآية: 59]، و قال تعالى: بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ‏ [سورة الحديد، الآية: 12]، و قال تعالى: يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ‏ [سورة إبراهيم، الآية: 31].

و لأهمّيّة هذه الكلمة في الأديان الإلهيّة فقد ذكرها عزّ و جلّ في القرآن المجيد في أكثر من أربعمائة مورد بصيغها المختلفة و هيئاتها المتعدّدة.

و قد اختلف العلماء و المفسّرون في المراد من اليوم في المقام.

مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج‏10، ص 305

فقيل: إنّه زمان ظهور الإسلام ببعثة خاتم الأنبياء و المرسلين صلّى اللّه عليه و آله و دعوته الى التوحيد و نبذ الأنداد، فيكون المراد من قوله تعالى: أنّ اللّه أنزل إليكم الإسلام، و أكمل لكم الدين، و أتمّ عليكم النعمة و يأس الكفّار من دينكم فلا تخافوهم بعد ذلك.

و أشكل عليه بأنّه يلزم من ذلك أن يكون للمسلمين دين قبل الإسلام كان المشركون يطمعون فيه، و يخشى المسلمون منهم على دينهم، فأيأس اللّه الكافرين بإكمال دينهم و إتمام نعمته عليهم كما هو ظاهر سياق الآية المباركة، و هو خلاف الوجدان، فإنّه لم يكن لهم قبل الإسلام دين يطمع فيه الكفّار أو يكمله اللّه و يتمّ نعمته عليهم.

و قيل: إنّ المراد به ما بعد فتح مكّة، فإنّه اليوم الّذي أبطل اللّه تعالى كيد المشركين و أذهب شوكتهم و هدم بنيانهم، فانقطع رجاؤهم فلم يخفهم المسلمون على دينهم و لا على أنفسهم.

و يرد عليه: أنّ الآية المباركة تدلّ على كمال الدين و إتمام النعمة و في ذلك اليوم لم يكمل الدين و لم تتم النعمة بعد، و قد فرضت كثير من الشرائع و الأحكام و أنزلت عدد من الفرائض بعد يوم الفتح.
مع أنّ الآية الشريفة تدلّ على ايئاس جميع الكفّار من هذا الدين و لم يكن كذلك بعد يوم الفتح، إذ أنّ بعض العادات السيئة و الشرائع الفاسدة كانت موجودة عندهم حتّى بعث فيهم النبي صلّى اللّه عليه و آله من أبطل تلك العادات السيئة و الشرائع الفاسدة.

و قيل: إنّ المراد به ما بعد نزول سورة البراءة من الزمان حيث انبسط الإسلام على جزيرة العرب و عفيت آثار الشرك، و ماتت سنن الجاهليّة، فلم يكن يخش المسلمون من كيدهم، و قد أبدلهم اللّه تعالى من بعد خوفهم أمنا يعبدونه و لا يشركون به شيئا.

و يرد عليه ما أورد على سابقه، فإنّ الإسلام و إن أمن من مكرهم و انبسط على الجزيرة و انقبرت سنن الجاهليّة، إلّا أنّ الدين لما يكمل بعد، و قد نزلت فرائض‏

مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج‏10، ص 306

و أحكام و مواثيق بعد نزول براءة كما هو معلوم، فإنّ سورة المائدة الّتي هي سورة الأحكام نزلت في آخر عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و قيل- و هو المعروف بينهم-: إنّ المراد به يوم عرفة من حجّة الوداع، كما ذكره كثير من المفسّرين و وردت به بعض الروايات.

و فيه: أنّه إذا كان المراد به ذلك فما المراد من يأس الّذين كفروا من هذا الدين، فهل المراد به يأس مشركي قريش من الظهور عليه؟! فهو قد كان في يوم الفتح عام ثمانية للهجرة، لا يوم عرفة من السنة العاشرة.
أو يراد به يأس مشركي العرب من الظهور على الدين؟! فقد كان عند نزول براءة في السنة التاسعة من الهجرة.

و إن كان المراد به يأس الكفّار جميعهم الشامل لليهود و النصارى و المجوس و غيرهم، كما يقتضيه إطلاق الآية الشريفة: الَّذِينَ كَفَرُوا، فهؤلاء لم يكونوا آيسين من الظهور على المسلمين، إذ لم يكن لهم شوكة و منعة في خارج الجزيرة.

على أنّ المناسب لقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏ أنّ كون الحكم الّذي أنزله اللّه تعالى له من الأهميّة بمكان بحيث يكون به كمال هذا الدين، و به تتمّ النعمة العظيمة، و بنزوله قد رضي اللّه سبحانه و تعالى أن يكون الإسلام دينا و منهاجا أبديّا خالدا إلى يوم القيامة.

و ما يمكن أن يقال من الاحتمالات في هذا الحكم النازل في يوم عرفة خمسة:

الأوّل: أن يكون المراد به إكمال أمر الحج بحضور النبي صلّى اللّه عليه و آله بنفسه الشريفة و تعليمه الناس تعليما قوليّا و عمليّا في آن واحد.

و فيه: أنّ حضوره صلّى اللّه عليه و آله في الحجّ و إكماله بتشريع الأحكام، فيه كمال للحجّ فقط لا للدين كلّه و إتمام للنعمة، فإنّ كلّ حكم إلهي بحدّ نفسه كمال و نعمة عظيمة، كما ورد في قوله تعالى عند تشريع الوضوء و التيمم: وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ‏، إلّا أنّ ظاهر الآية المباركة في المقام أنّ ما شرّعه عزّ و جلّ من الحكم في هذا اليوم يكون موجبا لكمال الدين كلّه و سببا لانقطاع رجاء الكفّار، مضافا إلى‏

مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج‏10، ص 307

ذلك أنّ تشريع الحجّ لم يكن موجبا لإيئاس الكفّار و انقطاع الرجاء عن هذا الدين كما هو معلوم، فتنقطع الرابطة بين الجملتين، و هو خلاف ظاهر الآية الشريفة.

الثاني: أن يكون المراد به إكمال الدين بنزول بقايا الحلال و الحرام في هذا اليوم، فلا حلال بعده و لا حرام، و به استولى اليأس على الكفّار و انقطع رجاؤهم عن هذا الدين.

و فيه: مضافا الى ما أورد على سابقه أنّ الأحكام لم تكمل يوم عرفة، فقد نزلت بعده عدة أحكام كآية الصيف و آيات الربا، كما دلّت عليه جملة من الأخبار.

مع أنّ الكفّار الّذين انقطع رجاؤهم و استولى اليأس على نفوسهم، هل هم مشركوا قريش؟ فقد كانوا كذلك قبل نزول هذه الآية المباركة، أم مشركوا العرب؟ فقد خابوا عند نزول سورة براءة، أم الكفّار مطلقا من غيرهم؟ و قد عرفت أنّهم لم يكونوا آيسين يومئذ من الظهور على المسلمين.

الثالث: أن يكون المراد به إكمال الدين بتخليص بيت اللّه الحرام من رجس الوثنيّة، و براثن الشرك، و إجلاء المشركين عنه و خلوصه لعبادة اللّه الواحد الأحد.

و فيه: أنّ الأمر كان كذلك بعد فتح مكّة قبل هذا اليوم بسنة، يضاف الى ذلك أنّ تسمية مثل ذلك كمالا للدين و إن كان فيه إتمام للنعمة مشكل، فإنّ الدين مجموعة من الاعتقادات و التوجيهات و الإرشادات القيمة الّتي توجّه الإنسان إلى الصراط المستقيم و تعدّه إعدادا علميّا و عمليّا و عقائديّا لنيل الكمالات الواقعيّة، و ليس في فتح مكة من الأهميّة العظمى الّتي يكون بها إكمالا للدين كلّه، و إن كان له أهميّة من النواحي الاخرى الّتي لا يستهان بها كما هو معلوم.

على أنّ إشكال يأس الكفّار يأتي في هذا الاحتمال أيضا، كما هو واضح.

الرابع: أن يكون المراد به إكمال الدين ببيان المحرّمات بيانا تفصيليّا، بعد أن ذكرت على سبيل الإجمال في بعض السور المكّية، لئلّا ينفر العرب من هذا الدين و يمتنعوا عن قبوله، و ليكون المسلمون على بصيرة منها فيجتنبوا عنها عن علم و معرفة و اطمئنان من دون خشية من الكفّار، فإنّهم يئسوا من هذا الدين بعد

مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج‏10، ص 308

إعزازه و ظهور الدين كلّه، فالمراد من اليوم هو يوم عرفة الّتي نزلت فيه هذه الآية الشريفة الّتي بيّنت هذه الأحكام و أبطلت بها سنن الجاهليّة، و هدم صرح الشرك بالبشارة بغلبة المسلمين و ظهورهم على المشركين ظهورا تامّا و عدم الخشية منهم، فإنّهم يئسوا من إزالة هذا الدين، فأبدل اللّه تعالى خوف المؤمنين أمنا و ضعفهم قوّة و فقرهم غنى، فالأجدر بالمسلمين أن يتوجّهوا الى العمل بالأحكام في أمن و أمان، فلا يبالوا بالكفّار و لا الى قوّتهم، و لا يخافوهم على دينهم و لا على أنفسهم.

و يرد عليه ما أورد على سوابقه، مضافا الى أنّ التدريج في المقام ليس كالتدريج في آيات الخمر، فإنّ هذه الآية المباركة لم تأت بحكم جديد، إضافة الى ما ورد من التحريم في سورة البقرة و الأنعام و النحل، إلّا أنّ في المقام شرحا للميتة ببيان أفرادها، فإن أريد من التدريج خوفا من امتناع الناس عن قبول هذا المعنى، فهو غير وجيه، إذ أنّ هذه المحرّمات ذكرت في غير موضع واحد.

على أنّ تشريع حكم واحد مثل هذا الّذي ورد في الآية الكريمة، و إن كان كمالا في حدّ نفسه و تماما للنعمة، لكنّه لم يكن كمالا للدين كلّه- كما عرفت- كما هو شأن بقية الأحكام الإلهيّة الّتي شرّعت في أوقات متعدّدة، فلم يرد فيها مثل ما ورد في ما شرّعه اللّه تعالى في هذا اليوم بأنّه كمال للدين و إتمام للنعمة العظيمة، و أنّه سبب لا لإيئاس الكفّار من هذا الدين، و أنّ به رضا اللّه تعالى أن يكون الإسلام دينا الى يوم القيامة.

الخامس: أن يكون المراد بإكمال الدين هو سدّ باب التشريع، فلم ينزل حكما آخر بعد نزول هذه الآية في يوم عرفة.

و فيه: أنّه لم ينسد باب التشريع عند نزول هذه الآية الشريفة في هذا اليوم كما عرفت مكرّرا، فقد شرّعت أحكام كثيرة بعدها أيضا.
و الحقّ أن يقال: إنّ الدين مجموعة قوانين و نظم و توجيهات و إرشادات قيّمة تعدّ الإنسان إعدادا علميّا و عمليّا و عقائديّا للوصول الى الكمال اللائق به في الدارين، و تكون سببا في سعادته، و هي و إن كانت مجموعات و أحكاما متعدّدة، إلّا

مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج‏10، ص 309

أنّها مترابطة و متكاملة، و يعتبر كلّ واحد منها نعمة على الإنسان، كما يدلّ عليه ما ورد في تشريع الوضوء و التيمم في قوله تعالى: وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ‏ [سورة المائدة، الآية: 6].

كما أنّ كلّ واحد من تلك الأحكام يكون اللاحق منها مكملا للسابق و كمالا له، و يعدّ كلّ تشريع من التشريعات الإلهيّة دعامة من دعامات هذا الدين، و سببا في تقويته و تثبيته و منعته و صدّه لكيد الكافرين و مكرهم الّذين ما برحوا في تفويض هذا البنيان المنيع و إطفاء نور اللّه تعالى، و لهم في ذلك أساليب مختلفة كما حكى عزّ و جلّ في القرآن الكريم و حذّر المؤمنين من كيدهم و مكرهم و خدعهم.

و كان من جملة ما توسّلوا به في زعزعة هذا الدين هو افتتان المؤمنين و بثّ النفاق بينهم و إفساد دينهم بإلقاء الشبه و الشكوك في نفوسهم، و قد تصدّى الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله لدفع جميع ذلك و ردّ كيدهم بوحي من السماء و إمداد ربوبي، فعاش فيهم ثلاثا و عشرين سنة يكابد المحن و يكافح أعداء الدين و يجاهد مع المنافقين،

و يمدّه عزّ و جلّ بتوجيهات و إرشادات و ينزل من الأحكام ما تطمئن نفسه الشريفة و نفوس المؤمنين، حتّى نما الإسلام و قويت شوكته و دخل المشركون في هذا الدين و انمحت آثار الشرك من الجزيرة و علت كلمته و ظهر على الدين كلّه و إن كره الكافرون، إلّا أنّه صلّى اللّه عليه و آله و إن أمن من كيدهم في حال حياته، و لكنّه لم يأمن منهم بعد رحيله و غيابه عن جماعتهم، و كان من أهمّ ما كان يمنّي أعداء الدين أنفسهم هو الانقضاض على هذه الشجرة الطيبة بعد موته صلّى اللّه عليه و آله، فكانوا يفترون عزيمة النبي صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين بشتى السبل، منها أنّهم كانوا يقولون:

إنّ هذا النبي صلّى اللّه عليه و آله أبتر ليس له عقب يحفظ له دينه بعد موته، و سينقطع أثره و يموت ذكره و لا يبقى دينه كما هو المشهود في موت الملوك و السلاطين، فكان هذا الأمر من أهمّ ما كان يساور النبي صلّى اللّه عليه و آله و يهمه و يقلق باله. و لعلّه كان يرى أنّ هذا الدين لو بقي كذلك من دون أن يكون في البين تشريع يحفظه بعد ارتحاله صلّى اللّه عليه و آله يكون ناقصا، و كان يخشى الكافرين أعداء هذا الدين من الانقضاض عليه مرّة اخرى و إفساده‏

مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج‏10، ص 310

و هو غائب لم يقدر على حفظه من كيدهم، و هذا هو الّذي كان يخشى المؤمنون منه أيضا، فلا بدّ من تشريع يزيل هذا النقص منه و تكميله بإنزال حكم يثبت دعائمه إلى الأبد، مع العلم بأنّه دين أبدي لا يكون بعده دين أو تشريع آخر، فيكون هذا التشريع و الحكم الإلهي له من المميزات ما يفوق به على أي تشريع آخر، فإنّه يزيل الخشية عن المؤمنين من كيد الكافرين، فلا يخاف منهم،

و به يكمل هذا الدين و تثبت دعائمه الى الأبد و يؤمن من كيد أعدائه و مكرهم و خدعهم و أباطيلهم، و هو من النّعم العظيمة على المؤمنين في حفظ دينهم من الضياع، و به رضى اللّه عزّ و جلّ أن يكون الإسلام دينا أبديّا و منهاجا خالدا، فأيّ تشريع عظيم هذا يكون سببا لرضائه تعالى به دينا كاملا، فهو تبارك و تعالى كان راضيا بهذا الدين قبل ذلك و لكنّه الآن رضي أن يكون دينا كاملا و تامّا لا يخشى المسلمون من أعدائه، فهو باق ببقاء الدهر محفوظا من كيدهم و مكرهم، فلا يخافهم المؤمنون لا على دينهم و لا على أنفسهم.

و من ذلك يعلم أنّ المراد من اليوم في المقام هو المقطع الخاصّ من الزمان الّذي شرّع فيه هذا الحكم الإلهي العظيم، فلا يختصّ بخصوص يوم عرفة أو قبله أو ما بعده حتّى ارتحاله صلّى اللّه عليه و آله، فإنّ لهذا التشريع مقدّمات و معدّات لم تكن في غيره لأهمّيّته، فهو يختلف عن سائر الأحكام و التشريعات كما عرفت.
و به يمكن أن يجمع بين الأقوال، فإنّ لكلّ واحد منها دخلا في هذا التشريع بنحو من الأنحاء، و سيأتي في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ‏ بعض الكلام إن شاء اللّه تعالى.

و يشهد لما ذكرنا امور:

منها: أنّ سياق قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ‏ يدلّ على تفخيم أمر هذا اليوم و تعظيم شأنه، لما في تقديم الظرف و تعلّقه بقوله تعالى: يَئِسَ‏ من الدلالة على ذلك كما هو معلوم، و لعلّ السرّ في ذلك هو

مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج‏10، ص 311

ما ذكرناه من إنزال حكم إلهي في هذا اليوم يكون فيه الضمان لحفظ هذا الدين و ديمومته، و به خرج من الظهور و الحدوث الى مرحة البقاء و الدوام.

و منها: أن يأس الكفّار و انقطاع رجائهم عن هذا الدين لم يتحقّق إلّا بتشريع حكم يضمن بقاءه و يحفظه من الضياع إذا مات القائم بأمره، فإنّ كلّ مذهب و نحلة لا تبقى على شوكتها و قوّتها و صفاتها و نضارتها إذا مات حملتها و حفظتها و القائمون بأمرها، فلا بدّ من أن يقوم بعدهم من يحفظها و يدبّر أمرها، و كان رجاء الأعداء الوحيد هو موت صاحب هذا الدين ليقضوا عليه بعد ما لم ينفعه التهديد، و التوعيد و القهر،

و الجبر، و القتل، و الضرب في حياة صاحبه، و قد حصل لهم اليأس عند ما خرج الدين من القيام بفرد معين و شخص خاصّ الى أشخاص متعدّدين يتحمّلون الأمانة بصدق و وفاء، و يكونون مظاهر للشريعة قولا و عملا، و انقطع رجاؤهم عند ما علموا بأنّ الدين خرج من مرحلة الحدوث الى مرحلة البقاء،

و لعلّ في قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة، الآية: 109] إشارة إلى ذلك، فإنّ الكفّار عند ما انقطع رجاؤهم من تقويض هذا الدين في حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله تمنّوا الانقضاض عليه و ردّ المؤمنين عن إيمانهم بعد ارتحاله و موته صلّى اللّه عليه و آله، و لكن اللّه جلّت عظمته وعد المؤمنين بأن يأتي بحكم يرفع هذا الخوف الكامن في نفوسهم، و هو الّذي ذكره عزّ و جلّ في الآيات المباركة في المقام.

و منها: أنّ سياق الآية الشريفة يختلف عن سياق مثيلتها الّتي ورد فيها نفس الأسلوب، كقوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ‏، الّذي يدلّ على تشريع حكم إرفاقي ينبئ عن عظيم امتنانه على الامة، حيث أحلّ لهم الطيبات و طعام أهل الكتاب، كما ستعرف.
و أمّا المقام، فإنّ سياقه يدلّ على تعظيم أمر «اليوم» الّذي نزل فيه حكم‏

مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج‏10، ص 312

عظيم يتضمّن البشرى للمؤمنين بحفظ دينهم عن تلاعب أيدي الّذين كفروا، و هو يشمل اليهود و النصارى و المجوس و غيرهم.

و أمّا الآية الاخرى فيختصّ الحكم فيها بأهل الكتاب، كما أنّ الحكم في المقام تكويني، بينما يكون الحكم في الآية التالية تشريعي إرفاقي، فيستفاد من جميع ذلك عظمة الحكم الوارد في المقام و أهميّة اليوم الّذي شرّع فيه ذلك الحكم.

و منها: أنّه ورد بعض الروايات في المقام الّذي يدلّ على أنّ الآية نزلت يوم غدير خم في أمر ولاية علي عليه السّلام، كما ستعرف.

و منها: قوله تعالى في الآية الكريمة: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ‏ الدال على النهي عن الخشية منهم. و الظاهر أنّ النهي إرشادي، لا أن يكون مولويا، بمعنى ارتفاع الموجب عن الخشية بعد يأس الّذين كفروا من التعرّض لدينكم، فلا بدّ أن تكون الخشية من اللّه تعالى فقط في عدم التعرّض لما يوجب سخطه و عقابه.

و من البديهي أنّ الخشية منه عزّ و جلّ واجبة على كلّ تقدير من غير أن تكون في وقت خاصّ أو حالة مخصوصة، فإنّ ذلك يشعر بأنّ الخشية المأمور بها في المقام هي خشية خاصّة، و هي الّتي كانت حاصلة من الأعداء بالنسبة الى دين اللّه تعالى، و بعد أن أيأسهم اللّه تعالى و أمن المؤمنون، فلا موجب للخشية منهم،

و يجب على المؤمنين توجّه خشيتهم الى اللّه تعالى لئلّا يقعوا في ما يوجب غضبه و الانتقام منهم.

و لا تخلو الآية المباركة من التهديد و التحذير للمؤمنين كما هو واضح من سياقها.

قد يقال: إنّ قوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ‏ يكون مثل قوله تعالى:

فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏ [سورة آل عمران، الآية: 175]، فكلّ ما يقال فيه يقال في المقام أيضا.

و يرد عليه: بأنّ الحكم في الآية الشريفة الثانية مولوي مشروط بالإيمان، و يكون مفادها أنّه لا يجوز للمؤمنين أن يخافوا الكافرين لا على دينهم و لا على‏

مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج‏10، ص 313

أنفسهم، بل يجب عليهم أن يخافوا اللّه تعالى وحده، فإنّه العزيز القادر على كلّ شي‏ء، بل المؤمن لا يخاف غيره جلّ شأنه، كما يشعر به التعليل في ذيل الآية المباركة.

و أمّا آية المقام، فإنّها لا تنهى عن الخشية منهم إلّا بعد تشريع حكم خاصّ أوجب يأس الأعداء و انقطاع رجائهم عن نيل هذا الدين، فحينئذ لا بدّ أن تكون خشيتهم عن اللّه فقط، فهي لا تنهى عن الخشية مطلقا كما نهت الآية الاخرى عن الخوف، بل لأجل أنّه لا موجب للخشية بعد اليأس؛ و لذا كان الحكم تكوينيّا لا تشريعيّا.

و من جميع ذلك تعرف عظمة هذه الآية الشريفة و أهميّتها، و أنّها تؤذن بأنّ هذا الدين في أمن و أمان من ناحية الّذين كفروا بعد ما يئسوا من النيل منه، فلا يتطرّق إليه ما يوجب الخطر عليه أو فساده إلّا من ناحية المسلمين أنفسهم بترك العمل بالأحكام الإلهيّة و الإعراض عن التوجيهات الربوبيّة،

فإذا تغيّروا تغيّر اللّه تعالى عليهم، فإنّ اللّه لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، فقد يسلب منهم التوفيق، و يزيل النعمة، و يذيقهم لباس الخوف و الجوع كما حكي عزّ و جلّ في عدّة مواضع من القرآن الكريم، قال تعالى: وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ‏ [سورة النحل، الآية: 112]، فحينئذ تنحصر الخشية من اللّه فقط في أن يسلب منهم النعمة العظيمة إذا تغيّر المؤمنون و رفضوا العمل بتعليمات هذا الدين، و قد حذّر اللّه تعالى العباد عن نفسه في عدّة مواضع من الكتاب الكريم إذا لم يتولوا اللّه عزّ و جلّ و الرسول في جميع أمورهم.

قوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ‏.

الخشية: هي الخوف و الحذر مع التعظيم، و الغالب فيها عن علم و معرفة؛ و لذا قال تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [سورة فاطر، الآية: 28]، و قال‏

مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج‏10، ص 314

تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ‏ [سورة النور، 2 لآية: 52].
و الآية الشريفة بمنزلة الغاية لما قبلها. أي: بعد ما وفى اللّه تعالى بوعده، حيث أظهر دينه و يئس الكفّار من الغلبة لما شاهدوا من الكمال في الدين، فلا تخشوا الكفّار من أن يظهروا على دينكم و يغلبوكم، بل أخلصوا الخشية للّه جلّ جلاله وحده لما منّ عليكم بالنصر و الغلبة و الإظهار على العقائد الفاسدة و الأديان المنحرفة.
و يحتمل أن يكون المراد من الخشية الرجاء.

و لكنّه بعيد؛ لأنّهما متضادّان، نعم الرجاء يلازم الآخر غالبا في ضدّ متعلّقه.

فمن يخشى المرض يرجو طبعا الصحّة، و كذا من يخشى الفقر يرجو الغنى، و كذا سائر الأضداد. و سياق الآية المباركة يدلّ على ما ذكرناه و اللّه العالم.

قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً.

بشارات ثلاث تنبئ عن عظيم المنّة على المؤمنين، و تدلّ على كمال هذا الدين و هيمنته على الدين كلّه، فلا دين و لا شريعة بعد هذا الدين الكامل الّذي ارتضاه اللّه تعالى أن يكون منهاجا علميّا و عمليّا للبشريّة كلّها، و أنّ ما سواه باطل و ناقص، فهو النعمة التامّة الّتي لا ينقصها شي‏ء، و هو الدين الكامل الّذي لا يعوزه تتميم من متمم، و قد ذكرنا آنفا أنّ هذه الفقرة ترتبط مع الفقرة السابقة،

أعني: قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ‏ أشدّ ارتباط، و هما مسوقتان لغرض واحد، فإنّ اللّه تعالى أكمل هذا الدين و أتمّ نعمته على المؤمنين، و ارتضاه أن يكون دينا خالدا كاملا، فكان ذلك سببا لانقطاع رجاء الكافرين عن النيل من هذا الدين و يأسهم من محوه و إفساده، فلا موجب للخشية منهم، و إنّ الخشية إنّما تكون من اللّه سبحانه و تعالى وحده في أن ينزع هذا الدين من المؤمنين‏

مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج‏10، ص 315

أنفسهم و يسلب هذه النعمة العظيمة عنهم إذا لم يطيعوا اللّه تعالى في تشريعاته و أحكامه و توجيهاته.
و مادة (كمل) تدلّ على الوفاء و التمام، و كمل الشي‏ء إذا حصل ما هو الغرض منه، و ذكر العلماء أنّ الإكمال و الإتمام متقاربا المعنى. و لكن التتبع في موارد استعمالاتهما يفيد بأنّهما مختلفان، فقد يستعمل التمام و الإتمام في مورد لا يصحّ استعمال الإكمال فيه أو بالعكس، فإنّ الإتمام يستعمل في ما إذا كان للشي‏ء أجزاء و شروط و قد تحقّقت جميعها، بحيث لو فقد واحد منها لم يترتّب عليه أثره أو الغرض الّذي سيق له،

قال تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ‏ [سورة البقرة، الآية: 187]، فإنّ الصيام إنّما يوصف بالتمام إذا لم يختل شروطه، فلو أختل واحد منها و لو في جزء من النهار، فإنّه يفسد.

و أمّا الإكمال، فإنّه يستعمل في ما إذا كان للشي‏ء أجزاء و لكلّ جزء أثره الخاصّ المترتّب عليه، فلو حصلت جميع تلك الأجزاء لتحقّقت جميع تلك الآثار المطلوبة، و إلّا فيتحقّق جزء من مجموع الأثر، فالاختلاف بين المادّتين (الإتمام) و (الإكمال) كالاختلاف بين العامّ المجموعي و العامّ الإفرادي المعروفين في علم الأصول. قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [سورة البقرة، الآية: 196]،

فإنّ لكلّ واحد من تلك العشرة أثره المطلوب، فإذا تحقّقت كاملة حصلت جميع الآثار المطلوبة، و إلّا فيتحقّق الأثر الخاصّ المترتّب على الجزء المأتي به فقط، و قال تعالى: وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ‏ [سورة البقرة، الآية: 185]، فإنّ الأثر يترتّب على البعض كما يترتّب على الكلّ، كلّ بحسبه، فهذا هو الفرق بين المادّتين اللتين اجتمعتا في هذه الفقرة، فإنّ الاولى تدلّ على أنّ هذا الدين مجموعة معارف و أحكام، و قيم، و توجيهات، فكلّ واحد منها كمال في حدّ نفسه،

و لكن أضيف إليها أمر في هذا اليوم أصبح به الدين كاملا لا يمكن أن ينال ذلك الأثر العظيم المترتّب على هذا الدين إلّا بتنفيذه، فهو المكمّل لها، كما أنّ النعم الإلهيّة و إن كانت كثيرة في هذا الدين، و لكنّها تمّمت بهذا 

مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج‏10، ص 316

الأمر الّذي شرّعه عزّ و جلّ في هذا اليوم؛ فلذا ارتضى جلّ شأنه هذا الإسلام دينا تامّا كاملا لا يعوزه شي‏ء آخر و لا يحتاج الى مكمّل، و سيبقى مدى الدهر يقاوم الصعاب و يصمد أمام كلّ صروف الزمان، لا يثنيه تشكيك المبطلين و لا زيغ الزائغين الضالّين.

و أمّا النعمة، فهي عبارة عمّا يلائم طبع الشي‏ء من غير امتناعه منه، و هي من الإمدادات الربوبيّة للإنسان يتصرّف فيها في سبيل سعادته الحقيقيّة، و قد كثر ورودها في القرآن الكريم، قال تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [سورة إبراهيم، الآية: 34]، و ذلك لحكم كثيرة، منها الإعلام بأنّها من شؤون ربوبيّته العظمى لخلقه، و تذكيرا للمنعم عليه بالمنعم ليشكره على ما أنعم، و إرشادا له بإيفاء حقّ النعمة، و بيانا بأنّ نظام التدبير قائم بها على نحو تكون بينها وحدة مترابطة متكاملة.

و هي بحدّ نفسها توصف بالخير و الحسنة؛ لأنّها توافق الغرض الإلهي الّذي خلق من أجله الإنسان، قال تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏ [سورة الذاريات، الآية: 56]، فكلّ ما أوجب التقرّب إليه عزّ و جلّ و ابتغاء مرضاته و التعبّد لديه تكون نعمة، و إلّا كانت نقمة و شرّا. و لعله لأجل ذلك وصف سبحانه و تعالى بعض النّعم الإلهيّة في القرآن الكريم بصفات غير محمودة،

قال تعالى: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ‏ [سورة آل عمران، الآية: 178]. كما وصف عزّ و جلّ الدنيا الّتي هي من أهمّ النعم الربوبيّة بأنّها متاع قليل، قال تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ* مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ [سورة آل عمران، الآية: 197]، و قال تعالى: وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ‏ [سورة العنكبوت، الآية: 64]. و إنّما وصفها عزّ و جلّ بتلك الأوصاف لأنّها لم تستغل من قبل الإنسان في الغرض الّذي عيّنه خالقها لأجله، و هو الدخول في ولايته عزّ و جلّ بالعمل بوظائف العبوديّة.

مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج‏10، ص 317

و من ذلك يعرف أنّ الإسلام الّذي هو مجموعة تشريعات و وظائف و أحكام و توجيهات و إرشادات أنزلها اللّه تعالى لغرض إعداد الإنسان إعدادا علميّا، و عمليّا، و عقائديّا؛ ليكون عبدا قائما بوظائف العبوديّة، و من المعلوم أنّه لا يتمّ ذلك إلّا بالدخول في ولايته تعالى و ولاية رسوله صلّى اللّه عليه و آله و أوليائه عليهم السّلام بعده بالطاعة لهم و العمل بما جاء به الدين، كما قال عزّ و جلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‏ [سورة النساء، الآية: 59]،

فيكون اليوم الّذي أتمّ اللّه النعمة على المؤمنين هو اليوم الّذي شرّع فيه ما يكون موجبا للدخول في ولاية اللّه تعالى و ولاية رسوله الكريم، و متمّما لهاتين النعمتين العظيمتين، و هو اليوم الّذي فرض فيه ولاية أولياء اللّه تعالى بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله، الّذين بهم تقام أركان الدين و يبسط العدل، و يحمى دين اللّه تعالى، فهم القيمون على الشريعة بعد أن كان القيّم عليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الّذي كان مؤيّدا بوحي إلهى، فإذا انقطع لا بدّ من أن يقوم مقامه أحد في هذه المهمة العظيمة و تتمّ به ولاية اللّه تعالى و ولاية الرسول الكريم، و به أيس الكفّار عن هدم هذا الدين، و رضى اللّه تعالى بهذا الدين إسلاما.

و ممّا ذكرناه يعرف أنّ هذه الولاية لها أساس تشريعي به كمل الدين في تشريعه، و أساس تكويني به تمّت النعمة و كان لها الأثر العميق في أمن المؤمنين بعد خوفهم ليعبدوا اللّه و لا يشركوا به شيئا، و لعلّه الى ذلك يشير قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‏ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ‏ [سورة النور، الآية: 55]، فإنّ هذه الآية المباركة تشير بوضوح الى ما سيتحقّق من الوعد الّذي وعده عزّ و جلّ به في آية المقام بتشريع ما يكمل به الدين و تتمّ به النعمة و ييأس الكفّار و يأمن المؤمنون بعد خوفهم، فتكون هذه الآية المباركة من مصاديق آية سورة النور الّتي هي أسبق نزولا من سورة المائدة.

مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج‏10، ص 318

و ذيل الآية الشريفة: وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ‏ يدلّ على تشديد الأمر في الموعود الّذي وعده عزّ و جلّ.

ذه خلاصة ما يمكن أن يستفاد من هذه الآية المباركة بضميمة ما ورد في القرآن الكريم و السنّة الشريفة.
و من ذلك كلّه تعرف أنّ ما ذكره بعض المفسّرين و العلماء في تفسيرها إنّما هو بعيد عن سياقها.

نسخه شناسی

درباره مولف

کتاب شناسی

منابع: 

موسوى سبزوارى سيد عبد الاعلى‏، مواهب الرحمان في تفسير القرآن‏، بيروت‏، موسسه اهل بيت( ع)، 1409 ق‏، چاپ دوم‏، ج 10، صص 303 - 318