آیه 55، سوره مائده : الميزان فى تفسير القرآن

الميزان فى تفسير القرآن،  ج‏6 ، ص 5

[سورة المائدة (5): الآيات 55 الى 56]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (55) وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)

(بيان)
الآيتان- كما ترى- موضوعتان بين آيات تنهى عن ولاية أهل الكتاب و الكفار، و لذلك رام جماعة من مفسري القوم إشراكهما مع ما قبلهما و ما بعدهما من حيث السياق، و جعل الجميع ذات سياق واحد يقصد به بيان وظيفة المؤمنين في أمر ولاية الأشخاص ولاية النصرة، و النهي عن ولاية اليهود و النصارى و الكفار،

و قصر الولاية في الله سبحانه و رسوله و المؤمنين الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون، و هؤلاء هم المؤمنون حقا فيخرج بذلك المنافقون و الذين في قلوبهم مرض، و يبقى على وجوب الولاية المؤمنون حقا، و تكون الآية دالة على مثل ما يدل عليه مجموع قوله تعالى: «وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ»: آل عمران- 68،

و قوله تعالى: «النَّبِيُّ أَوْلى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»: الأحزاب: 6، و قوله تعالى في المؤمنين: «أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ»: الأنفال: 72، و قوله تعالى: «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» الآية: التوبة- 71. فمحصل الآية جعل ولاية النصرة لله و لرسوله و المؤمنين على المؤمنين.

نعم يبقى هناك إشكال الجملة الحالية التي يتعقبها قوله: «وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ» و هي قوله: «وَ هُمْ راكِعُونَ» و يرتفع الإشكال بحمل‏ الركوع‏ على معناه المجازي و هو مطلق‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص 6

الخضوع لله سبحانه أو انحطاط الحال لفقر و نحوه، و يعود معنى الآية إلى أنه ليس أولياؤكم اليهود و النصارى و المنافقين بل أولياؤكم الله و رسوله و المؤمنون الذين يقيمون الصلاة، و يؤتون الزكاة، و هم في جميع هذه الأحوال خاضعون لساحة الربوبية بالسمع و الطاعة، أو أنهم يؤتون الزكاة و هم فقراء معسرون هذا.

لكن التدبر و استيفاء النظر في الآيتين و ما يحفهما من آيات ثم في أمر السورة يعطي خلاف ما ذكروه، و أول ما يفسد من كلامهم ما ذكروه من أمر وحدة سياق الآيات، و أن غرض الآيات التعرض لأمر ولاية النصرة، و تمييز الحق منها من غير الحق فإن السورة و إن كان من المسلم نزولها في آخر عهد رسول الله ص في حجة الوداع لكن من المسلم أيضا أن جميع آياتها لم تنزل دفعة واحدة ففي خلالها آيات لا شبهة في نزولها قبل ذلك، و مضامينها تشهد بذلك، و ما ورد فيها من أسباب النزول يؤيده فليس مجرد وقوع الآية بعد الآية أو قبل الآية يدل على وحدة السياق، و لا أن بعض المناسبة بين آية و آية يدل على نزولهما معا دفعة واحدة أو اتحادهما في السياق.

على أن الآيات السابقة أعني قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ‏ «إلخ»، تنهى المؤمنين عن ولاية اليهود و النصارى، و تعير المنافقين و الذين في قلوبهم مرض بالمسارعة إليهم و رعاية جانبهم من غير أن يرتبط الكلام بمخاطبة اليهود و النصارى و إسماعهم الحديث بوجه بخلاف الآيات التالية أعني قوله:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ» «إلخ»، فإنها تنهى عن ولايتهم و تتعرض لحالهم بالأمر بمخاطبتهم ثم يعيرهم بالنفاق و الفسق فالغرض في القبيلين من الآيات السابقة و اللاحقة مختلف، و معه كيف يتحد السياق؟!.
على أنك قد عرفت في البحث عن الآيات السابقة أعني قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ» (الآيات) أن ولاية النصرة لا تلائم سياقها، و أن خصوصيات الآيات و العقود المأخوذة فيها و خاصة قوله: «بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» و قوله:

«وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ» لا تناسبها فإن عقد ولاية النصرة و اشتراطها بين قومين لا يوجب صيرورة أحدهما الآخر و لحوقه به، و لا أنه يصح تعليل النهي عن هذا العقد بأن القوم الفلاني بعضهم أولياء بعض بخلاف عقد ولاية المودة التي توجب الامتزاج النفسي‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص 7

و الروحي بين الطرفين، و تبيح لأحدهما التصرف الروحي و الجسمي في شئون الآخر الحيوية و تقارب الجماعتين في الأخلاق و الأعمال الذي يذهب بالخصائص القومية.

على أنه ليس من الجائز أن يعد النبي ص وليا للمؤمنين بمعنى ولاية النصرة بخلاف العكس فإن هذه النصرة التي يعتني بأمرها الله سبحانه، و يذكرها القرآن الكريم في كثير من آياته هي النصرة في الدين و حينئذ يصح أن يقال: إن الدين لله بمعنى أنه جاعله و شارع شرائعه فيندب النبي ص أو المؤمنون أو هما جميعا إلى نصرته أو يدعوا أنصارا لله في ما شرعه من الدين كقوله تعالى: «قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ»: الصف: 14، و قوله تعالى: «إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ»: محمد: 7، و قوله تعالى:

«وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ‏- إلى أن قال: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ»: آل عمران: 81، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و يصح أن يقال: إن الدين للنبي ص بمعنى أنه الداعي إليه و المبلغ له مثلا، أو إن الدين لله و لرسوله بمعنى التشريع و الهداية فيدعى الناس إلى النصرة، أو يمدح المؤمنون بالنصرة كقوله تعالى: «وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ»،: الأعراف: 157، و قوله تعالى: «وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ»: الحشر: 8، و قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا»: الأنفال: 72، إلى غير ذلك من الآيات.

و يصح أن يقال: إن الدين للنبي ص و للمؤمنين جميعا، بمعنى أنهم المكلفون بشرائعه العاملون به فيذكر أن الله سبحانه وليهم و ناصرهم كقوله تعالى: «وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ»: الحج: 40، و قوله تعالى‏: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ»: غافر: 51، و قوله تعالى: «وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»: الروم- 47 إلى غير ذلك من الآيات.

لكن لا يصح أن يفرد الدين بوجه للمؤمنين خاصة، و يجعلوا أصلا فيه و النبي ص بمعزل عن ذلك، ثم يعد (ص) ناصرا لهم فيما لهم، إذ ما من كرامة دينية إلا هو مشاركهم فيها أحسن مشاركة، و مساهمهم أفضل سهام؛ و لذلك لا نجد القرآن يعد النبي ص ناصرا للمؤمنين و لا في آية واحدة، و حاشا ساحة الكلام الإلهي أن يساهل في رعاية أدبه البارع.

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص 8

و هذا من أقوى الدليل على أن المراد بما نسب إلى النبي ص من الولاية في القرآن هو ولاية التصرف أو الحب و المودة كقوله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»:» الأحزاب: 6، و قوله تعالى: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا» (الآية)، فإن الخطاب للمؤمنين، و لا معنى لعد النبي ص وليا لهم ولاية النصرة كما عرفت.

فقد ظهر أن الآيتين أعني قوله تعالى: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ» إلى آخر الآيتين لا تشاركان السياق السابق عليهما لو فرض أنه متعرض لحال ولاية النصرة، و لا يغرنك قوله تعالى في آخر الآية الثانية: «فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ»، فإن الغلبة كما تناسب الولاية بمعنى النصرة، كذلك تناسب ولاية التصرف و كذا ولاية المحبة و المودة، و الغلبة الدينية التي هي آخر بغية أهل الدين تتحصل باتصال المؤمنين بالله و رسوله بأي وسيلة تمت و حصلت، و قد قرع الله سبحانه أسماعهم ذلك بصريح وعده حيث قال: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي»: المجادلة: 21، و قال: «وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ:» الصافات: 173.

على أن الروايات متكاثرة من طرق الشيعة و أهل السنة على أن الآيتين نازلتان في أمير المؤمنين علي (ع) لما تصدق بخاتمه و هو في الصلاة، فالآيتان خاصتان غير عامتين، و سيجي‏ء نقل جل ما ورد من الروايات في ذلك في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

و لو صح الإعراض في تفسير آية بالأسباب المأثورة عن مثل هذه الروايات على تكاثرها و تراكمها لم يصح الركون إلى شي‏ء من أسباب النزول المأثورة في شي‏ء من آيات القرآن و هو ظاهر، فلا وجه لحمل الآيتين على إرادة ولاية المؤمنين بعضهم لبعض بجعلها عامة.

نعم استشكلوا في الروايات- و لم يكن ينبغي أن يستشكل فيها مع ما فيها من الكثرة البالغة- أولا: بأنها تنافي سياق الآيات الظاهر في ولاية النصرة كما تقدمت الإشارة إليه؛ و ثانيا: أن لازمها إطلاق الجمع و إرادة الواحد فإن المراد بالذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة «إلخ»، على هذا التقدير هو علي و لا يساعده اللغة، و ثالثا:

أن لازمها كون المراد بالزكاة هو التصدق بالخاتم، و لا يسمى ذلك زكاة.
قالوا: فالمتعين أن تؤخذ الآية عامة، و تكون مسوقة لمثل قصر القلب أو الإفراد

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص 9

فقد كان المنافقون يسارعون إلى ولاية أهل الكتاب و يؤكدونها، فنهى الله عن ذلك و ذكر أن أولياءهم إنما هم الله و رسوله و المؤمنون حقا دون أهل الكتاب و المنافقين.

و لا يبقى إلا مخالفة هذا المعنى لظاهر قوله: «وَ هُمْ راكِعُونَ» و يندفع بحمل الركوع على معناه المجازي، و هو الخضوع لله أو الفقر و رثاثة الحال، هذا ما استشكلوه.
لكن التدبر في الآية و ما يناظرها من الآيات يوجب سقوط الوجوه المذكورة جميعا:

أما وقوع الآية في سياق ولاية النصرة، و لزوم حملها على إرادة ذلك فقد عرفت أن الآيات غير مسوقة لهذا الغرض أصلا، و لو فرض سرد الآيات السابقة على هذه الآية لبيان أمر ولاية النصرة لم تشاركها الآية في هذا الغرض.

و أما حديث لزوم إطلاق الجمع و إرادة الواحد في قوله: «وَ الَّذِينَ آمَنُوا» «إلخ»، فقد عرفت في الكلام على آية المباهلة في الجزء الثالث من هذا الكتاب تفصيل الجواب عنه، و أنه فرق بين إطلاق لفظ الجمع و إرادة الواحد و استعماله فيه، و بين إعطاء حكم كلي أو الإخبار بمعرف جمعي في لفظ الجمع لينطبق على من يصح أن ينطبق عليه، ثم لا يكون المصداق الذي يصح أن ينطبق عليه إلا واحدا فردا و اللغة تأبى عن قبول الأول دون الثاني على شيوعه في الاستعمالات.

و ليت شعري ما ذا يقولون في مثل قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ- إلى أن قال:- تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ» الآية: الممتحنة: 1، و قد صح أن المراد به حاطب بن أبي بلتعة في مكاتبته قريشا؟

و قوله تعالى: «يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ»: المنافقون:
8، و قد صح أن القائل به عبد الله بن أبي بن سلول؟ و قوله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ»: البقرة: 215 و السائل عنه واحد؟، و قوله تعالى: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً»: البقرة: 274 و قد ورد أن المنفق كان عليا أو أبا بكر؟ إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

و أعجب من الجميع قوله تعالى: «يَقُولُونَ نَخْشى‏ أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ» و القائل هو عبد الله بن أبي، على ما رووا في سبب نزوله و تلقوه بالقبول، و الآية واقعة بين الآيات المبحوث عنها نفسها.

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص 10

فإن قيل: إن هذه الموارد لا تخلو عن أناس كانوا يرون رأيهم أو يرضون بفعالهم فعبر الله تعالى عنهم و عمن يلحق بهم بصيغة الجمع. قيل: إن محصله جواز ذلك في اللغة لنكتة مجوزة فليجر الآية أعني قوله: «وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ» هذا المجرى، و لتكن النكتة هي الإشارة إلى أن أنواع الكرامات الدينية- و منها الولاية المذكورة في الآية- ليست موقوفة على بعض المؤمنين دون بعض وقفا جزافيا و إنما يتبع التقدم في الإخلاص و العمل لا غير.

على أن جل الناقلين لهذه الأخبار هم صحابة النبي ص و التابعون المتصلون بهم زمانا و هم من زمرة العرب العرباء الذين لم تفسد لغتهم و لم تختلط ألسنتهم و لو كان هذا النحو من الاستعمال لا تبيحه اللغة و لا يعهده أهلها لم تقبله طباعهم، و لكانوا أحق باستشكاله و الاعتراض عليه، و لم يؤثر من أحد منهم ذلك.
و أما قولهم: إن الصدقة بالخاتم لا تسمى زكاة، فيدفعه أن تعين لفظ الزكاة في معناها المصطلح إنما تحقق في عرف المتشرعة بعد نزول القرآن بوجوبها و تشريعها في الدين،

و أما الذي تعطيه اللغة فهو أعم من الزكاة المصطلحة في عرف المتشرعة و يساوق عند الإطلاق أو عند مقابلة الصلاة إنفاق المال لوجه الله كما يظهر مما وقع فيما حكاه الله عن الأنبياء السالفين كقوله تعالى في إبراهيم و إسحاق و يعقوب: «وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ»: الأنبياء: 73، و قوله تعالى في إسماعيل:

«وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا»: مريم: 55 و قوله تعالى حكاية عن عيسى (ع) في المهد: «وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا»: مريم: 31 و من المعلوم أن ليس في شرائعهم الزكاة المالية بالمعنى الذي اصطلح عليه في الإسلام.

و كذا قوله تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى»: الأعلى: 15 و قوله تعالى: «الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى»: الليل: 18 و قوله تعالى: «الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ»: حم السجدة: 7 و قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ»: المؤمنون: 4، و غير ذلك من الآيات الواقعة في السور المكية و خاصة السور النازلة في أوائل البعثة كسورة حم السجدة و غيرها، و لم تكن شرعت الزكاة المصطلحة بعد؛ فليت شعري ما ذا كان يفهمه المسلمون من هذه الآيات في‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص 11

لفظ الزكاة.
بل آية الزكاة أعني قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ»: التوبة: 103، تدل على أن الزكاة من أفراد الصدقة، و إنما سميت زكاة لكون الصدقة مطهرة مزكية مطلقا، و قد غلب استعمالها في الصدقة المصطلحة.

فتبين من جميع ما ذكرنا أنه لا مانع من تسمية مطلق الصدقة و الإنفاق في سبيل الله زكاة، و تبين أيضا أن لا موجب لارتكاب خلاف الظاهر بحمل الركوع على معناه المجازي، و كذا ارتكاب التوجيه في قوله‏ «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا» حيث أتى باسم إن‏ (وَلِيُّكُمُ) مفردا و بقوله‏ «الَّذِينَ آمَنُوا» و هو خبر بالعطف بصيغة الجمع، هذا.

قوله تعالى: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا» قال الراغب في المفردات:
الولاء (بفتح الواو) و التوالي أن يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما، و يستعار ذلك للقرب من حيث المكان و من حيث النسبة و من حيث الصداقة و النصرة و الاعتقاد، و الولاية النصرة، و الولاية تولي الأمر، و قيل: الولاية و الولاية (بالفتح و الكسر) واحدة نحو الدلالة و الدلالة و حقيقته تولي الأمر، و الولي و المولى يستعملان في ذلك، كل واحد منهما يقال في معنى الفاعل أي الموالي (بكسر اللام) و معنى المفعول أي الموالي (بفتح اللام) يقال للمؤمن: هو ولي الله عز و جل و لم يرد مولاه، و قد يقال: الله ولي المؤمنين و مولاهم.

قال: و قولهم: تولى إذا عدي بنفسه اقتضى معنى الولاية و حصوله في أقرب المواضع منه يقال: وليت سمعي كذا، و وليت عيني كذا، و وليت وجهي كذا أقبلت به عليه قال الله عز و جل: «فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» و إذا عدي بعن لفظا أو تقديرا اقتضى معنى الإعراض و ترك قربه. انتهى.

و الظاهر أن القرب الكذائي المعبر عنه بالولاية، أول ما اعتبره الإنسان إنما اعتبره في الأجسام و أمكنتها و أزمنتها ثم أستعير لأقسام القرب المعنوية بالعكس مما

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص 12

ذكره لأن هذا هو المحصل من البحث في حالات الإنسان الأولية فالنظر في أمر المحسوسات و الاشتغال بأمرها أقدم في عيشة الإنسان من التفكر في المعقولات و المعاني و أنحاء اعتبارها و التصرف فيها.
و إذا فرضت الولاية- و هي القرب الخاص- في الأمور المعنوية كان لازمها أن للولي ممن وليه ما ليس لغيره إلا بواسطته فكل ما كان من التصرف في شئون من وليه مما يجوز أن يخلفه فيه غيره فإنما يخلفه الولي لا غيره كولي الميت،

فإن التركة التي كان للميت أن يتصرف فيها بالملك فإن لوارثه الولي أن يتصرف فيها بولاية الوراثة، و ولي الصغير يتصرف بولايته في شئون الصغير المالية بتدبير أمره، و ولي النصرة له أن يتصرف في أمر المنصور من حيث تقويته في الدفاع، و الله سبحانه ولي عباده يدبر أمرهم في الدنيا و الآخرة لا ولي غيره،

و هو ولي المؤمنين في تدبير أمر دينهم بالهداية و الدعوة و التوفيق و النصرة و غير ذلك، و النبي ولي المؤمنين من حيث إن له أن يحكم فيهم و لهم و عليهم بالتشريع و القضاء، و الحاكم ولي الناس بالحكم فيهم على مقدار سعة حكومته،

و على هذا القياس سائر موارد الولاية كولاية العتق و الحلف و الجوار و الطلاق و ابن العم، و ولاية الحب و ولاية العهد و هكذا، و قوله: «يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ» أي يجعلون أدبارهم تلي جهة الحرب و تدبر أمرها، و قوله‏ «تَوَلَّيْتُمْ» أي توليتم عن قبوله أي اتخذتم أنفسكم تلي جهة خلاف جهته بالإعراض عنه أو اتخذتم وجوهكم تلي خلاف جهته بالإعراض عنه؛ فالمحصل من معنى الولاية في موارد استعمالها هو نحو من القرب يوجب نوعا من حق التصرف و مالكية التدبير.

و قد اشتمل قوله تعالى: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا» «إلخ» من السياق على ما يدل على وحدة ما في معنى الولاية المذكورة فيه حيث تضمن العد في قوله: «اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا» و أسند الجميع إلى قوله: «وَلِيُّكُمُ» و ظاهره كون الولاية في الجميع بمعنى واحد. و يؤيد ذلك أيضا قوله في الآية التالية: «فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ» حيث يشعر أو يدل على كون المتولين جميعا حزبا لله لكونهم تحت ولايته؛ فولاية الرسول و الذين آمنوا إنما هو من سنخ ولاية الله.

و قد ذكر الله سبحانه لنفسه من الولاية، الولاية التكوينية التي تصحح له التصرف في كل شي‏ء و تدبير أمر الخلق بما شاء، و كيف شاء قال تعالى: «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص 13

أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ»: الشورى: 9 و قال: «ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ»: السجدة: 4 و قال: «أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ»: يوسف: 101 و قال: «فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ»: الشورى: 44 و في معنى هذه الآيات قوله: «وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ»: ق: 16، و قوله: «وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ»: الأنفال: 24.

و ربما لحق بهذا الباب ولاية النصرة التي ذكرها لنفسه في قوله: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى‏ لَهُمْ»: سورة محمد- 11، و قوله: «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ»: التحريم: 4، و في معنى ذلك قوله: «وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»: «الروم: 47».

و ذكر تعالى أيضا لنفسه الولاية على المؤمنين فيما يرجع إلى أمر دينهم من تشريع الشريعة و الهداية و الإرشاد و التوفيق و نحو ذلك كقوله تعالى: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ»: البقرة: 257، و قوله: «وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ»: «آل عمران: 68 و قوله: «وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ»: الجاثية: 19، و في هذا المعنى قوله تعالى: «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً»: الأحزاب: 36.

فهذا ما ذكره الله تعالى من ولاية نفسه في كلامه، و يرجع محصلها إلى ولاية التكوين و ولاية التشريع، و إن شئت سميتهما بالولاية الحقيقية و الولاية الاعتبارية.

و قد ذكر الله سبحانه لنبيه (ص) من الولاية التي تخصه الولاية التشريعية و هي القيام بالتشريع و الدعوة و تربية الأمة و الحكم فيهم و القضاء في أمرهم، قال تعالى: «النَّبِيُّ أَوْلى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»: الأحزاب: 6، و في معناه قوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ»: النساء: 105، و قوله: «وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ»: الشورى: 52، و قوله: «رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ»: الجمعة: 2، و قوله: «لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ»: النحل:
44 و قوله: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ»: النساء: 59، و قوله: «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ»»: الأحزاب:

36، و قوله: «وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ»: المائدة: 49، و قد تقدم أن الله لم يذكر ولاية النصرة عليه للأمة.

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص 14

و يجمع الجميع أن له (ص) الولاية على الأمة في سوقهم إلى الله و الحكم فيهم و القضاء عليهم في جميع شئونهم فله عليهم الإطاعة المطلقة فترجع ولايته (ص) إلى ولاية الله سبحانه بالولاية التشريعية، و نعني بذلك أن له (ص) التقدم عليهم بافتراض الطاعة لأن طاعته طاعة الله، فولايته ولاية الله كما يدل عليه بعض الآيات السابقة كقوله:

«أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ» (الآية) و قوله: «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً» (الآية) و غير ذلك.

و هذا المعنى من الولاية لله و رسوله هو الذي تذكره الآية للذين آمنوا بعطفه على الله و رسوله في قوله: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا» على ما عرفت من دلالة السياق على كون هذه الولاية ولاية واحدة هي لله سبحانه بالأصالة و لرسوله و الذين آمنوا بالتبع و بإذن منه تعالى.

و لو كانت الولاية المنسوبة إلى الله تعالى في الآية غير المنسوبة إلى الذين آمنوا- و المقام مقام الالتباس- كان الأنسب أن تفرد ولاية أخرى للمؤمنين بالذكر رفعا للالتباس كما وقع نظيره في نظيرها، قال تعالى: «قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ»: التوبة. 61، فكرر لفظ الإيمان لما كان في كل من الموضعين لمعنى غير الآخر، و قد تقدم نظيره في قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ‏: النساء- 59، في الجزء السابق على هذا الجزء من الكتاب.

على أن لفظ «وَلِيُّكُمُ» أتي به مفردا و قد نسب إلى الذين آمنوا و هو جمع، و قد وجهه المفسرون بكون الولاية ذات معنى واحد هو لله سبحانه على الأصالة و لغيره بالتبع.

و قد تبين من جميع ما مر أن القصر في قوله: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ» «إلخ»، لقصر الإفراد كان المخاطبين يظنون أن الولاية عامة للمذكورين في الآية و غيرهم فأفرد المذكورون للقصر، و يمكن بوجه أن يحمل على قصر القلب.

قوله تعالى: «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ» بيان للذين آمنوا المذكور سابقا، و قوله: «وَ هُمْ راكِعُونَ» حال من فاعل‏ «يُؤْتُونَ» و هو العامل فيه.

و الركوع‏ هو الهيأة المخصوصة في الإنسان، و منه الشيخ الراكع، و يطلق في عرف الشرع على الهيأة المخصوصة في العبادة، قال تعالى: «الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ»:

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص 15

التوبة: 112 و هو ممثل للخضوع و التذلل لله، غير أنه لم يشرع في الإسلام في غير حال الصلاة بخلاف السجدة.

و لكونه مشتملا على الخضوع و التذلل ربما أستعير لمطلق التذلل و الخضوع أو الفقر و الإعسار الذي لا يخلو عادة عن التذلل للغير.

قوله تعالى: «وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ»، التولي‏ هو الأخذ وليا، و «الَّذِينَ آمَنُوا» مفيد للعهد و المراد به المذكور في الآية السابقة: «وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ»، «إلخ»، و قوله: «فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ» واقع موقع الجزاء و ليس به بل هو من قبيل وضع الكبرى موضع النتيجة للدلالة على علة الحكم، و التقدير: و من يتول فهو غالب لأنه من حزب الله و حزب الله هم الغالبون، فهو من قبيل الكناية عن أنهم حزب الله.

و الحزب‏ على ما ذكره الراغب جماعة فيها غلظ، و قد ذكر الله سبحانه حزبه في موضع آخر من كلامه قريب المضمون من هذا الموضع، و وسمهم بالفلاح فقال: «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ‏- إلى أن قال:- أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»: المجادلة- 22.

و الفلاح‏ الظفر و إدراك البغية التي هي الغلبة و الاستيلاء على المراد، و هذه الغلبة و الفلاح هي التي وعدها الله المؤمنين في أحسن ما وعدهم به و بشرهم بنيله، قال تعالى:

«قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ»: المؤمنون: 1، و الآيات في ذلك كثيرة، و قد أطلق اللفظ في جميعها، فالمراد الغلبة المطلقة و الفلاح المطلق أي الظفر بالسعادة و الفوز بالحق و الغلبة على الشقاء، و إدحاض الباطل في الدنيا و الآخرة، أما في الدنيا فبالحياة الطيبة التي توجد في مجتمع صالح من أولياء الله في أرض مطهرة من أولياء الشيطان على تقوى و ورع، و أما في الآخرة ففي جوار رب العالمين.

(بحث روائي)
في الكافي، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة،

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص 16

عن زرارة؛ و الفضيل بن يسار، و بكير بن أعين، و محمد بن مسلم، و بريد بن معاوية، و أبي الجارود، جميعا عن أبي جعفر (ع) قال: أمر الله عز و جل رسوله بولاية علي و أنزل عليه: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ» و فرض من ولاية أولي الأمر فلم يدروا ما هي؟

فأمر الله محمدا ص أن يفسر لهم الولاية- كما فسر الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج-.
فلما أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول الله ص، و تخوف أن يرتدوا عن دينهم و أن يكذبوه، فضاق صدره و راجع ربه عز و جل- فأوحى الله عز و جل إليه:

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ- وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏، فصدع بأمر الله عز ذكره، فقام بولاية علي (ع) يوم غدير خم- فنادى: الصلاة جامعة، و أمر الناس أن يبلغ الشاهد الغائب.

قال عمر بن أذينة: قالوا جميعا غير أبي الجارود: قال أبو جعفر (ع): و كانت الفريضة الأخرى، و كانت الولاية آخر الفرائض- فأنزل الله عز و جل: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي»، قال أبو جعفر (ع): يقول الله عز و جل: لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة- قد أكملت لكم الفرائض.

و في البرهان، و غاية المرام، عن الصدوق بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفر (ع): في قول الله عز و جل: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا»، قال: إن رهطا من اليهود أسلموا- منهم عبد الله بن سلام- و أسد و ثعلبة و ابن يامين و ابن صوريا- فأتوا النبي ص فقالوا: يا نبي الله- إن موسى أوصى إلى يوشع بن نون، فمن وصيك يا رسول الله؟ و من ولينا بعدك؟ فنزلت هذه الآية: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ».

قال رسول الله ص: قوموا فقاموا و أتوا المسجد- فإذا سائل خارج فقال (ص): يا سائل هل أعطاك أحد شيئا؟ قال: نعم هذا الخاتم- قال: من أعطاكه؟

قال: أعطانيه ذلك الرجل الذي يصلي؛ قال على أي حال أعطاك؟ قال: كان راكعا فكبر النبي ص و كبر أهل المسجد.
فقال النبي ص: علي وليكم بعدي- قالوا: رضينا بالله ربا، و بمحمد نبيا، و بعلي‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص 17

بن أبي طالب وليا فأنزل الله عز و جل: «وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ»

الحديث.
و في تفسير القمي، قال: حدثني أبي، عن صفوان: عن أبان بن عثمان، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (ع): بينا رسول الله ص جالس و عنده قوم من اليهود- فيهم عبد الله بن سلام إذ نزلت عليه هذه الآية- فخرج رسول الله ص إلى المسجد فاستقبله سائل- فقال (ص): هل أعطاك أحد شيئا؟ قال: نعم ذلك المصلي، فجاء رسول الله ص فإذا هو علي (ع):.

أقول: و رواه العياشي في تفسيره عنه (ع).

و في أمالي الشيخ، قال: حدثنا محمد بن محمد- يعني المفيد- قال: حدثني أبو الحسن علي بن محمد الكاتب، قال: حدثني الحسن بن علي الزعفراني، قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الثقفي، قال: حدثنا محمد بن علي، قال: حدثنا العباس بن عبد الله العنبري، عن عبد الرحمن بن الأسود الكندي اليشكري، عن عون بن عبيد الله، عن أبيه عن جده أبي رافع قال: دخلت على رسول الله ص يوما و هو نائم- و حية في جانب البيت- فكرهت أن أقتلها و أوقظ النبي ص- فظننت أنه يوحى إليه فاضطجعت بينه و بين الحية- فقلت: إن كان منها سوء كان إلى دونه.

فكنت هنيئة فاستيقظ النبي ص و هو يقرأ: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا»- حتى أتى على آخر الآية- ثم قال: الحمد لله الذي أتم لعلي نعمته، و هنيئا له بفضل الله الذي آتاه، ثم قال لي: ما لك هاهنا؟ فأخبرته بخبر الحية- فقال لي: اقتلها ففعلت- ثم قال لي: يا (أبا،) رافع كيف أنت- و قوم يقاتلون عليا و هو على الحق و هم على الباطل؟ جهادهم حقا لله عز اسمه- فمن لم يستطع بقلبه، ليس وراءه شي‏ء- فقلت:
يا رسول الله ادع الله لي- إن أدركتهم أن يقويني على قتالهم- قال: فدعا النبي ص و قال: إن لكل نبي أمينا، و إن أميني أبو رافع.

قال: فلما بايع الناس عليا بعد عثمان، و سار طلحة و الزبير ذكرت قول النبي ص- فبعت داري بالمدينة و أرضا لي بخيبر- و خرجت بنفسي و ولدي مع أمير المؤمنين (ع)

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص 18

- لأستشهد بين يديه فلم أدرك معه حتى عاد من البصرة، و خرجت معه إلى صفين- (فقاتلت،) بين يديه بها و بالنهروان أيضا، و لم أزل معه حتى استشهد علي (ع)، فرجعت إلى المدينة و ليس لي بها دار و لا أرض- فأعطاني الحسن بن علي (ع) أرضا بينبع، و قسم لي شطر دار أمير المؤمنين (ع) فنزلتها و عيالي.

و في تفسير العياشي، بإسناده عن الحسن بن زيد، عن أبيه زيد بن الحسن، عن جده قال: سمعت عمار بن ياسر يقول: وقف لعلي بن أبي طالب سائل و هو راكع في صلاة تطوع- فنزع خاتمه فأعطاه السائل- فأتى رسول الله ص فأعلم بذلك- فنزل على النبي ص هذه الآية: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ»- (إلى آخر الآية) فقرأها رسول الله ص علينا- ثم قال:
من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه.

و في تفسير العياشي، عن المفضل بن صالح، عن بعض أصحابه، عن أحدهما (ع) قال: قال: إنه لما نزلت هذه الآية: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا»- شق ذلك على النبي ص- و خشي أن تكذبه قريش- فأنزل الله: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» (الآية) فقام بذلك يوم غدير خم.

و فيه، عن أبي جميلة عن بعض أصحابه عن أحدهما (ع) قال: إن رسول الله ص قال: إن الله أوحى إلي أن أحب أربعة: عليا و أبا ذر و سلمان و المقداد، فقلت: ألا فما كان من كثرة الناس- أ ما كان أحد يعرف هذا الأمر؟ فقال: بلى ثلاثة، قلت: هذه الآيات التي أنزلت: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا»- و قوله: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»- ما كان أحد يسأل فيمن نزلت؟ فقال من ثم أتاهم لم يكونوا يسألون.

و في غاية المرام، عن الصدوق بإسناده عن أبي سعيد الوراق عن أبيه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده: في حديث مناشدة علي (ع) لأبي بكر- حين ولى أبو بكر الخلافة، و ذكر (ع) فضائله لأبي بكر- و النصوص عليه من رسول الله ص فكان فيما قال له: فأنشدك بالله أ- لي الولاية من الله- مع ولاية رسول الله ص في آية زكاة الخاتم أم لك؟ قال: بل لك.

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص 19

و في مجالس الشيخ، بإسناده إلى أبي ذر: في حديث مناشدة أمير المؤمنين (ع) عثمان و الزبير- و عبد الرحمن بن عوف و سعد بن أبي وقاص- يوم الشورى و احتجاجه عليهم- بما فيه من النصوص من رسول الله ص، و الكل منهم يصدقه (ع) فيما يقوله فكان مما ذكره (ع): فهل فيكم أحد آتى الزكاة و هو راكع فنزلت فيه: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ»- غيري؟
قالوا: لا.

و في الإحتجاج، في رسالة أبي الحسن الثالث علي بن محمد الهادي (ع) إلى أهل الأهواز حين سألوه عن الجبر و التفويض:

قال (ع): اجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك: أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع فرقها- فهم في حالة الاجتماع عليه مصيبون، و على تصديق ما أنزل الله مهتدون لقول النبي ص: «لا تجتمع أمتي على ضلالة»، فأخبر (ع):

أن ما اجتمعت عليه الأمة- و لم يخالف بعضها بعضا هو الحق، فهذا معنى الحديث لا ما تأوله الجاهلون، و لا ما قاله المعاندون من إبطال حكم الكتاب، و اتباع أحكام الأحاديث المزورة، و الروايات المزخرفة، و اتباع الأهواء المردئة المهلكة التي تخالف نص الكتاب، و تحقيق الآيات الواضحات النيرات، و نحن نسأل الله أن يوفقنا للصلاة، و يهدينا إلى الرشاد.

ثم قال (ع): فإذا شهد الكتاب بصدق خبر- و تحقيقه فأنكرته طائفة من الأمة- عارضته بحديث من هذه الأحاديث المزورة، فصارت بإنكارها و دفعها الكتاب ضلالا، و أصح خبر مما عرف تحقيقه من الكتاب- مثل الخبر المجمع عليه من رسول الله ص قال: «إني مستخلف فيكم خليفتين كتاب الله و عترتي. ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي- و إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» و اللفظة الأخرى عنه في هذا المعنى بعينه قوله (ص): «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله و عترتي أهل بيتي، و إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا».

وجدنا شواهد هذا الحديث نصا في كتاب الله- مثل قوله: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ». ثم اتفقت‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص 20

روايات العلماء- في ذلك لأمير المؤمنين (ع): أنه تصدق بخاتمه و هو راكع فشكر الله ذلك له، و أنزل الآية فيه. ثم وجدنا رسول الله ص- قد أبانه من أصحابه بهذه اللفظة: «من كنت مولاه فعلي مولاه- اللهم وال من والاه و عاد من عاداه» و قوله:

(ص) «علي يقضي ديني، و ينجز موعدي، و هو خليفتي عليكم بعدي» و قوله (ص) حين استخلفه على المدينة- فقال: يا رسول الله: أ تخلفني على النساء و الصبيان؟ فقال (ص): أ ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى- إلا أنه لا نبي بعدي؟.

فعلمنا أن الكتاب شهد بتصديق هذه الأخبار، و تحقيق هذه الشواهد فيلزم الأمة الإقرار بها- إذا كانت هذه الأخبار وافقت القرآن- فلما وجدنا ذلك موافقا لكتاب الله، و وجدنا كتاب الله موافقا لهذه الأخبار، و عليها دليلا كان الاقتداء فرضا- لا يتعداه إلا أهل العناد و الفساد.

و في الإحتجاج، في حديث عن أمير المؤمنين (ع): قال المنافقون لرسول الله ص: هل بقي لربك علينا بعد الذي فرض علينا شي‏ء آخر- يفترضه فتذكر فتسكن أنفسنا إلى أنه لم يبق غيره؟ فأنزل الله في ذلك: «قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ»- يعني الولاية فأنزل الله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ»، و ليس بين الأمة خلاف أنه لم يؤت الزكاة- يومئذ و هو راكع غير رجل واحد 
، الحديث.

و في الاختصاص، للمفيد عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن القاسم بن محمد الجوهري، عن الحسن بن أبي العلاء قال: قلت لأبي عبد الله (ع): الأوصياء طاعتهم مفترضة؟

فقال: نعم، هم الذين قال الله: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»- و هم الذين قال الله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ».
أقول: و رواه في الكافي، عن الحسين بن أبي العلاء عنه (ع)، و روي ما في معناه عن أحمد بن عيسى عنه (ع).

و إسناد نزول ما نزل في علي (ع) إلى جميع الأئمة (ع) لكونهم أهل بيت واحد، و أمرهم واحد.

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص 21

و عن تفسير الثعلبي، أخبرنا أبو الحسن محمد بن القاسم الفقيه قال: حدثنا عبد الله بن أحمد الشعراني قال: أخبرنا أبو علي أحمد بن علي بن رزين قال: حدثنا المظفر بن الحسن الأنصاري قال: حدثنا السري بن علي الوراق قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الجماني عن قيس بن الربيع عن الأعمش، عن عباية بن الربعي قال: حدثنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه- و هو جالس بشفير زمزم يقول قال: رسول الله: إذ أقبل رجل معتم بعمامة- فجعل ابن عباس لا يقول: قال رسول الله- إلا و قال الرجل: قال رسول الله.

فقال له ابن عباس: سألتك بالله من أنت؟ قال: فكشف العمامة عن وجهه و قال: يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني- و من لم يعرفني- فأنا جندب بن جنادة البدري أبو ذر الغفاري- سمعت رسول الله بهاتين و إلا فصمتا- و رأيته بهاتين و إلا فعميتا يقول:

علي قائد البررة و قاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله.
أما إني صليت مع رسول الله يوما من الأيام صلاة الظهر- فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد- فرفع السائل يده إلى السماء و قال: اللهم اشهد أني سألت في مسجد رسول الله- فلم يعطني أحد شيئا، و كان علي راكعا فأومأ إليه بخنصره اليمنى، و كان يتختم فيها فأقبل السائل- حتى أخذ الخاتم من خنصره،

و ذلك بعين النبي ص- فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء- و قال: اللهم موسى سألك فقال: رب اشرح لي صدري، و يسر لي أمري، و احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، و اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي، اشدد به أزري، و أشركه في أمري. فأنزلت عليه قرآنا ناطقا: سنشد عضدك بأخيك، و نجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا.

اللهم و أنا محمد نبيك و صفيك، اللهم و اشرح لي صدري و يسر لي أمري، و اجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به ظهري.

قال أبو ذر: فما استتم رسول الله ص الكلمة- حتى نزل عليه جبرئيل من عند الله تعالى- فقال: يا محمد اقرأ قال: و ما أقرأ- قال: قال: اقرأ: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ‏.

و عن الجمع بين الصحاح الستة، لزرين من الجزء الثالث في تفسير سورة المائدة

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص 22

: قوله تعالى: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ»: (الآية) من صحيح النسائي عن ابن سلام: قال أتيت رسول الله ص فقلنا: إن قومنا حادونا لما صدقنا الله و رسوله، و أقسموا أن لا يكلموننا فأنزل الله تعالى: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ» (الآية).

ثم أذن بلال لصلاة الظهر فقام الناس يصلون- فمن بين ساجد و راكع و سائل إذ سائل يسأل، و أعطى علي خاتمه و هو راكع- فأخبر السائل رسول الله ص فقرأ علينا رسول الله ص: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ- وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ»

و عن مناقب ابن المغازلي الشافعي،": في تفسير قوله تعالى: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ» (الآية)": قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن عثمان قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان البزاز إذنا قال: حدثنا الحسن بن علي العدوي قال: حدثنا سلمة بن شبيب قال: حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا مجاهد عن ابن عباس": في قوله تعالى:

«إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ»- قال: نزلت في علي.

و عنه قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن طاوان قال: أخبرنا أبو أحمد عمر بن عبد الله بن شوذب قال: حدثنا محمد بن العسكري الدقاق قال: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا عبادة قال: حدثنا عمر بن ثابت عن محمد بن السائب عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: كان علي راكعا فجاءه مسكين فأعطاه خاتمه- فقال رسول الله: من أعطاك هذا؟ فقال: أعطاني هذا الراكع- فأنزل الله هذه الآية: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا (إلى آخر الآية ).

و عنه قال: حدثنا أحمد بن محمد بن طاوان إذنا: أن أبا أحمد عمر بن عبد الله بن شوذب أخبرهم قال: حدثنا محمد بن جعفر بن محمد العسكري قال: حدثنا محمد بن عثمان قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون قال: حدثنا علي بن عابس قال: دخلت أنا و أبو مريم على عبد الله بن عطاء، قال أبو مريم: حدث عليا بالحديث الذي حدثتني عن‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص 23

أبي جعفر، قال: كنت عند أبي جعفر جالسا- إذ مر عليه ابن عبد الله بن سلام- قلت:
جعلني الله فداك، هذا ابن الذي عنده علم الكتاب؟ قال: لا و لكنه صاحبكم علي بن أبي طالب- الذي أنزلت فيه آيات من كتاب الله عز و جل: «وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ، أَ فَمَنْ كانَ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ، إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا» (الآية ).

و عن الخطيب الخوارزمي في جواب مكاتبة معاوية إلى عمرو بن العاص قال عمرو بن العاص": لقد علمت يا معاوية ما أنزل في كتابه- من الآيات المتلوات في فضائله التي لا يشركه فيها أحد- كقوله تعالى: «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ، إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ‏، أَ فَمَنْ كانَ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ»، و قد قال الله تعالى: «رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ»، و قد قال الله تعالى لرسوله: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏»

و عنه بإسناده إلى أبي صالح عن ابن عباس قال: أقبل عبد الله بن سلام و معه نفر من قومه- ممن قد آمن بالنبي ص فقالوا: يا رسول الله- إن منازلنا بعيدة، و ليس لنا مجلس و لا متحدث دون هذا المجلس، و إن قومنا لما رأونا قد آمنا بالله و رسوله- و قد صدقناه رفضونا، و آلوا على أنفسهم- أن لا يجالسونا و لا يناكحونا و لا يكلمونا، و قد شق ذلك علينا فقال لهم النبي ص: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ‏».

ثم إن النبي ص خرج إلى المسجد- و الناس بين قائم و راكع، و بصر بسائل، فقال له النبي: ص هل أعطاك أحد شيئا؟ قال: نعم خاتم من ذهب، فقال له النبي ص:

من أعطاكه؟ فقال: ذلك القائم- و أومأ بيده إلى علي بن أبي طالب- فقال النبي ص:
على أي حال أعطاك؟ قال: أعطاني و هو راكع، فكبر النبي ص ثم قرأ: «وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ- (وَ الَّذِينَ آمَنُوا) فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ»- فأنشأ حسان بن ثابت يقول:

أبا حسن تفديك نفسي و مهجتي‏ و كل بطي‏ء في الهدى و مسارع‏
أ يذهب مدحي و المحبين ضائعا    و ما المدح في ذات الإله بضائع؟
فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعا فدتك نفوس القوم يا خير راكع‏
بخاتمك الميمون يا خير سيد    و يا خير شار ثم يا خير بائع‏
فأنزل فيك الله خير ولاية و بينها في محكمات الشرائع‏

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص 24

و عن الحمويني بإسناده إلى أبي هدبة إبراهيم بن هدبة قال: نبأنا أنس بن مالك: أن سائلا أتى المسجد و هو يقول: من يقرض الملي الوفي؟ و علي راكع يقول بيده خلفه للسائل: أن اخلع الخاتم من يدي، قال: فقال النبي ص: يا عمر وجبت، قال:

بأبي و أمي يا رسول الله ما وجبت؟ قال (ص): وجبت له الجنة، و الله ما خلعه من يده حتى خلعه من كل ذنب و من كل خطيئة.

و عنه بإسناده عن زيد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده قال: سمعت عمار بن ياسر- رضي الله عنه- يقول: وقف لعلي بن أبي طالب سائل- و هو راكع في صلاة التطوع- فنزع خاتمه و أعطاه السائل، فأتى رسول الله ص فأعلمه ذلك، فنزلت على النبي ص هذه الآية: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ»- فقرأها رسول الله ص، ثم قال (ص): من كنت مولاه فعلي مولاه.

و عن الحافظ أبي نعيم عن أبي الزبير عن جابر- رضي الله عنه- قال": جاء عبد الله بن سلام- و أتى معه قوم يشكون مجانبة الناس إياهم- منذ أسلموا فقال رسول الله ص: أبغوا إلي سائلا- فدخلنا المسجد فدنا سائل إليه فقال له: أعطاك أحد شيئا؟

قال: نعم- مررت برجل راكع فأعطاني خاتمه، قال: فاذهب فأرني قال: فذهبنا فإذا علي قائم، فقال: هذا؛ فنزلت: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ».
و عنه عن موسى بن قيس الحضرمي عن سلمة بن كهيل قال": تصدق علي بخاتمه و هو راكع فنزلت! «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ» (الآية ). و عنه عن عوف بن عبيد بن أبي رافع عن أبيه عن جده قال: دخلت على رسول الله ص و هو نائم إذ يوحى إليه- و إذا حية في جنب البيت- فكرهت أن أدخلها و أوقظه- فاضطجعت بينه و بين الحية- فإن كان شي‏ء في دونه، فاستيقظ و هو يتلو هذه الآية:

«إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ»- قال: الحمد لله فأتى إلى جانبي- فقال: ما اضطجعت هاهنا؟
قلت: لمكان هذه الحية- قال: قم إليها فاقتلها فقتلتها.

ثم أخذ بيدي فقال: يا أبا رافع- سيكون بعدي قوم يقاتلون عليا حق على الله جهادهم، فمن لم يستطع جهادهم بيده فبلسانه، فمن لم يستطع بلسانه فبقلبه ليس وراء ذلك.

الميزان فى تفسير القرآن، ج‏6، ص 25

أقول: و الروايات في نزول الآيتين في قصة التصدق بالخاتم كثيرة أخرجنا عدة منها من كتاب غاية المرام، للبحراني، و هي موجودة في الكتب المنقول عنها، و قد اقتصرنا على ما نقل عليه من اختلاف اللحن في سرد القصة.

و قد اشترك في نقلها عدة من الصحابة كأبي ذر و ابن عباس و أنس بن مالك و عمار و جابر و سلمة بن كهيل و أبي رافع و عمرو بن العاص، و علي و الحسين و كذا السجاد و الباقر و الصادق و الهادي و غيرهم من أئمة أهل البيت (ع).

و قد اتفق على نقلها من غير رد أئمة التفسير المأثور كأحمد و النسائي و الطبري و الطبراني و عبد بن حميد و غيرهم من الحفاظ و أئمة الحديث و قد تسلم ورود الرواية المتكلمون، و أوردها الفقهاء في مسألة الفعل الكثير من بحث الصلاة، و في مسألة «هل تسمى صدقة التطوع زكاة» و لم يناقش في صحة انطباق الآية على الرواية فحول الأدب من المفسرين كالزمخشري في الكشاف، و أبي حيان في تفسيره، و لا الرواة النقلة و هم أهل اللسان.

فلا يعبأ بما ذكره بعضهم: أن حديث نزول الآية في قصة الخاتم موضوع مختلق، و قد أفرط بعضهم كشيخ الإسلام ابن تيمية فادعى إجماع العلماء على كون الرواية موضوعا؟
و هي من عجيب الدعاوي، و قد عرفت ما هو الحق في المقام في البيان المتقدم.

نسخه شناسی

درباره مولف

کتاب شناسی 

منابع: 

طباطبايى، سيد محمد حسين‏، الميزان فى تفسير القرآن‏، قم‏، دفتر انتشارات اسلامى جامعه‏ى مدرسين حوزه علميه قم‏، 1417 ق‏، چاپ پنجم‏، ، ج‏6 ، صص 5 - 25