آیه 67، سوره مائده : تفسير من وحى القرآن

تفسير من وحى القرآن، ج‏8، ص 260

الآية [سورة المائدة (5): آية 67]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67)

مناسبة النزول‏
جاء في الدر المنثور: أخرج الشيخ عن الحسن أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلم قال: إنّ اللّه بعثني برسالة فضقت بها ذرعا و عرفت أنّ النّاس مكذّبيّ، فوعدني لأبلغن أو ليعذبني، فأنزل‏ يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ‏ ... قال:
يا رب، إنّما أنا واحد كيف أصنع ليجتمع عليّ النّاس، فنزلت: وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ‏ «1».

و في الدّر المنثور عن ابن مردويه و الضياء في المختارة عن ابن عباس قال: «سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلم أي آية أنزلت من السماء أشدّ عليك؟ فقال: كنت بمنى أيام موسم، اجتمع مشركو العرب و أفناء النّاس في الموسم، فنزل عليّ جبريل فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏
______________________________
(1) الدر المنثور، ج: 2، ص: 117.

تفسير من وحى القرآن، ج‏8، ص 261

قال: فقمت عند العقبة، فناديت: يا أيّها النّاس، من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي و لكم الجنّة؟ أيّها النّاس، قولوا: لا إله إلّا اللّه و أنا رسول اللّه إليكم و تنجوا و لكم الجنة. قال: فما بقي رجل و لا امرأة و لا صبي إلّا يرمون عليّ بالتراب و الحجارة، و يبصقون في وجهي و يقولون:

كذاب صابئ، فعرض عليّ عارض فقال: يا محمّد إن كنت رسول اللّه فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله و سلم: اللهم اهد قومي فإنّهم لا يعلمون، و انصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك، فجاء العباس عمّه فأنقذه منهم و طردهم عنه» «1».

و جاء في الدر المنثور في أكثر من رواية، كان النبيّ صلّى اللّه عليه و اله و سلم يحرسه أصحابه حتّى نزلت هذه الآية: وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏ الآية، فخرج إليهم و قال:
أيها الناس، انصرفوا فقد عصمني اللّه» «2».

و قد لخص الرازي في تفسيره الكبير، أهم أقوال المفسرين في أسباب نزول الآية موضوع البحث، و مجملها يدور حول قضايا جزئية لا أهمية لها في مدلولها و في نتائجها، و هي:
الأول: أنها نزلت في قصة الرجم و القصاص على ما تقدّم في قصة اليهود.
الثاني: نزلت في عيب اليهود و استهزائهم بالدين، و النبيّ سكت عنهم، فنزلت هذه الآية.
الثالث: لما نزلت آية التخيير، و هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ‏ [الأحزاب: 28] فلم يعرضها عليهن خوفا من اختيارهنّ الدنيا فنزلت.
______________________________
(1) م. س.، ج: 3، ص: 117.
(2) م. ن.، ج: 3، ص: 118.

تفسير من وحى القرآن، ج‏8، ص 262

الرابع: نزلت في أمر زيد و زينب بنت جحش ...
الخامس: نزلت في الجهاد، فإن المنافقين كانوا يكرهونه، فكان يمسك أحيانا عن حثهم على الجهاد ...

العاشر:
نزلت الاية في فضل علي بن أبي طالب عليه السّلام، و لما نزلت هذه الآية أخذ بيده و قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه، فلقيه عمر فقال: هنيئا لك يا بن أبي طالب أصبحت مولاي و مولي كلّ مؤمن و مؤمنة»

و هو قول ابن عباس و البراء بن عازب و محمّد بن عليّ‏ «1».
و يعلّق صاحب التفسير الكبير على هذه الروايات بقوله: «و اعلم أن هذه الروايات و إن كثرت، إلا أن الأولى حمله على أنه تعالى آمنه من مكر اليهود و النصارى، و أمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم، و ذلك لأن ما قبل هذه الآية بكثير، و ما بعدها بكثير، لما كان كلاما مع اليهود و النصارى، امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبية عمّا قبلها و ما بعدها» «2» و عن أبي سعيد الخدري- في ما أخرجه ابن مردويه و ابن عساكر- قال:

نزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ‏ يوم غدير خم في علي بن أبي طالب رضي الله عنه» «3».

و عن ابن مسعود- في ما أخرجه ابن مردويه و رواه السيّد الطّباطبائي في تفسيره: قال: «كنا نقرأ على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم: يا أيّها الرّسول بلغ ما أنزل إليك من ربك أن عليا مولى المؤمنين و إن لم تفعل فما بلغت رسالته و اللّه‏
______________________________
(1) الفخر الرازي، التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، ط: 3، م: 6، ج: 12، ص: 49
(2) م. ن.، م: 6، ج: 12، ص: 50
(3) أسباب النزول، ص: 112

تفسير من وحى القرآن، ج‏8، ص 263

يعصمك من الناس» «1» و
أخرج ابن أبي حاتم عن عنترة أنه قال لعليّ: «هل عندكم شي‏ء لم يبده رسول اللّه للناس؟ فقال: ألم تعلم أن اللّه قال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ‏».

و أما نحن، فلنا جملة ملاحظات على ما قيل، نوجزها بالتالي:
بالنسبة للرواية الأولى، فملاحظتنا أنها لا تتناسب مع وعي النبيّ صلى اللّه عليه و اله و سلم للرسالة، و قناعته بها، و استعداده للدعوة إليها، لأنها تتضمن ضيقه ذرعا و خوفه من تكذيب الناس له، و تهديد اللّه له بالعذاب، هذا مع ملاحظة أن الآية توحي بأنه كان قد بلغ الرسالة، و

أن اللّه قد أنزل عليه قضية تساوي الرسالة في أهميتها، و يمثل إهمالها إهمالا للرسالة نفسها، و هكذا الأمر في الرواية الثانية التي تمثل حيرة النبيّ صلى اللّه عليه و اله و سلم أمام مسألة الدعوة

، و جهله بالطريقة الّتي يدعو بها الناس ليجتمعوا إليه، في الوقت الذي نعرف فيه وعيه للواقع الذي عاش فيه و هو الذي عاش معه قبل الدعوة زهاء أربعين سنة، مع ملاحظة أن الآية لا تمثل جوابا على التساؤل المذكور، بل هي تتضمن أمرا بالتبليغ و تشديدا عليه و عصمة من الناس أما الرواية المتعلّقة بقوله: وَ اللَّ

هُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏ لا ندري كيف كانت هذه الآية أشدّ عليه و هي لم تتضمّن تهديدا بالعقاب بل تتضمّن عصمة له من الناس، و كيف كانت النتائج السلبية برميه بالتراب و الحجارة عصمة له و لا ينافي ذلك إنقاذ العباس له لأنه جاء بعد أن نال النبيّ صلى اللّه عليه و اله و سلم- على تقدير صحة الرواية- الجهد الكبير و هكذا نلاحظ على مسألة ترك الحراسة من قبل النبيّ صلى اللّه عليه و اله و سلم من جهة
______________________________
(1) تفسير الميزان، ج: 6، ص: 59

تفسير من وحى القرآن، ج‏8، ص 264

الوعد بالعصمة، فإن الظاهر أن العصمة القوليّة مما يمكن أن يقوله الناس من كلام غير مسئول في المسألة الّتي يبلغها مما توحي به من عناصر للاتهام و للإثارة في الناس. و بعبارة أخرى، إن القضية المطروحة ليست العصمة من الخطر الذي يمكن أن يصيب حياته، فقد كان النبيّ صلى اللّه عليه و اله و سلم يتحرك في قلب الخطر في ساحات الحرب في حروبه المتعدّدة و لكن القضية المطروحة هي عصمته من كلام الناس في الموضوع المعيّن. و اللّه العالم.

و أما بالنسبة إلى ما ذهب إليه الرازي في تفسيره الكبير فلنا أن نناقشه بأن أكثرها مما لا يتناسب مع جوّ الآية الذي يوحي بأن هناك أمرا مهما يتعلّق بسلامة الرسالة بحيث يعادل الامتناع عن تبليغه الامتناع عن تبليغ الرسالة من الأساس، كما أنه يثير نوعا من الكلام في الجانب الذاتي لشخصية الرسول صلى اللّه عليه و اله و سلم.

و قد نلاحظ على بعضها أنها كانت مما تحدث عنه القرآن في وقت سابق على نزول الآية كقضية الجهاد و قضية زيد و زينب بنت جحش و قضية الرجم و القصاص فلا مانع من أن يتحدث عنها بهذا الأسلوب الذي يوحي بأن الموضوع مثار تردد و بوقف.

أما هيبته لقريش و لليهود و النصارى فهي من الأمور المنافية لشخصيّة الرسول صلى اللّه عليه و اله و سلم و موقفه الصلب في أداء الرسالة منذ عهد الدعوة حتى مرحلة الهجرة التي نزلت الآية في آخرها، مع أن الآية توحي بأن النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم كان قد بلغ الكثير من الرسالة أو بلغ كل تفاصيلها كما تشير إليه كلمة وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ‏ أي فكأنك لم تبلّغ الرسالة التي بلغتها، لأن النتيجة ستكون بهذه المثابة من حيث الخطور

ة، و بهذا نرجح أن يكون الوجه الصحيح هو الوجه الأخير، و هو أنها نزلت في فضل عليّ عليه السّلام، لأن قرب عليّ عليه السّلام من رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم من ناحية النسب و المصاهرة يفتح المجال للكثير من أقاويل السوء التي تربط الموقف بالعاطفة في قضية الولاية، مما يحتاج إلى الدفاع الإلهي الذي يتمثل في عصمة اللّه له عن ذلك كله، و لأن قضية الولاية تمثل امتداد وجود القيادة المسؤولة الكفوءة

تفسير من وحى القرآن، ج‏8، ص 265

في الإمام، بالمستوي الذي يملك فيها التفوق الأفضلية على غيره من صحابة رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم، لا سيما في الجانب المتصل بالوعي الفكري التشريعي للرسالة الإسلاميّة.

و من الواضح، أن مسألة بهذه الأهمية يؤدي إهمالها إلى أن تبقى حركة الرسالة في مهب الرياح، كما لاحظناه في اهتزاز المسيرة الإسلامية في كثير من جوانبها لعدم انطلاقها من قاعدة صلبة في طبيعتها و موضوعها. و على ضوء ذلك، نفهم أن المتعيّن هو تفسير كلمة (المولى) بالولاية في خط القيادة بقرينة
قوله صلى اللّه عليه و اله و سلم: «أ لست أولى بالمؤمنين من أنفسهم»

، فإنها ظاهرة في أن‏ قوله‏ «من كنت مولاه فعلي مولاه»
يعني من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه، لأنه أراد أن يثبت له ما هو ثابت لنفسه مما أخذ اعترافهم به، و هو كناية عن القيادة لا المحبة و النصرة- كما يقول صاحب تفسير المنار «1» هذا من‏
______________________________
(1) قال صاحب المنار السيد محمد رشيد رضا في تفسيره حول هذا الموضوع: «أما حديث‏
(من كنت مولاه فعلي مولاه) فقد رواه أحمد في مسنده، و الترمذي و النسائي، و الضياء في المختارة، و ابن ماجة و حسنه بعضهم، و صححه الذهبي بهذا اللفظ، و وثق سند من زاد فيه‏ «اللهم وال من والاه و عاد من عاداه إلخ»

و في رواية أنه خطب الناس، فذكر أصول الدين، و وصّى بأهل بيته، فقال: إني تركت فيكم الثقلين: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يراد علي الحوض، اللّه مولاي، و أنا ولي كل مؤمن، ثم أخذ بيد علي و قال- الحديث- أي من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه‏

و حمل صاحب المنار كلمة المولى على إرادة الولاية في الحديث، ولاية النصرة و المودة. ثم قال: و أما الحديث- من كنت مولاه فعليّ مولاه- فنهتدي به، نوالي عليّا المرتضى، و نوالي من والاهم، و نعادي من عاداهم، و نعد ذلك كموالاة رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم و نؤمن بأن عترته صلى اللّه عليه و اله و سلم لا تجتمع على مفارقة الكتاب الذي أنزله اللّه، و أن الكتاب و العترة خليفتا الرسول، فقد صح الحديث بذلك في غير قصة الغدير فإذا أجمعوا على أمر قبلناه و اتبعناه و إذا تنازعوا في أمر رددناه إلى اللّه و الرسول رشيد رضا، محمد، تفسير المنار، دار المعرفة، بيروت- لبنان، ط: 2 ص: 465- 467

تفسير من وحى القرآن، ج‏8، ص 266

جهة و من جهة أخرى فإن إعلان مودة عليّ و محبة الناس له لا تحمل أي أساس للنقد و للكلام غير المسؤول من الناس ليكون ذلك سببا في الحديث عن عصمة اللّه له منه، لأن من الطبيعي أن يدعو الإنسان الناس إلى مودة أقرب الناس إليه و إلى نصرته لا سيّما إذا كان في مثل مستوى عليّ عليه السّلام الذي يعرفه كل المسلمين بالقرابة القريبة من رسول اللّه صلى اللّه عليه و اله و سلم نسبا و مصاهرة و تقوى و جهادا،

مما لا يثير أيّة مشكلة في الواقع و لا يسمح لليهود أن يصطادوا في الماء العكر، بينما تمثل الولاية- الإمامة- القيادة الكثير من الحديث السلبي ضد النبيّ محمد صلى اللّه عليه و اله و سلم الذي وعده اللّه بأن يعصمه منه أما ما تحدّث عنه الفخر الرازي من قضية ضرورة الانسجام مع السياق ليجعلها واردة في تأمين النبي صلى اللّه عليه و اله و سلم من مكر اليهود و النصارى فهذا ما لم نستطع إخضاع الآية له لأنّ المسألة في موضوع عصمته من الناس لا تنطلق من الخط العام للرسالة في مفاهيمها و أحكامها الإجماليّة و التفصيليّة، بل تنطلق من شي‏ء معين خطير يريد اللّه من الرسول صلى اللّه عليه و اله و سلم أن يبلغه.

و إننا لن نجد هناك أيّة ضرورة لهذا الاتصال فيما بين الآيات لأن من الممكن أن يكون تنظيم الآيات خاضعا لارتباطها في الأجواء العامّة للفكرة التي قد تشتمل على جزئيات و مفردات متنوعة تلتقي بحركة الدعوة الإسلاميّة في خطوات الرسول صلى اللّه عليه و اله و سلم و من معه في ما يواجههم من تحديات مختلفة في المواقع و في الأسلوب،

و قد يكفي في هذا الارتباط أن هذا الموقف من الرّسول صلى اللّه عليه و اله و سلم قد يثير الكثير من أقاويل اليهود في أجواء المدينة في اتهام النبيّ صلى اللّه عليه و اله و سلم بالعاطفة في مواجهة للأشياء و للأشخاص في ما يمكن أن يتمثل في قوله تعالى: وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ‏ و على ضوء ذلك، فإن الأقرب في أسباب النزول هو ما رواه أبو سعيد الخدري في نزولها في غدير خم في نصب عليّ عليه السّلام أميرا للمؤمنين، لأنه هو الذي كان من الممكن أن يثير الأقاويل من المنافقين ضدّ النبيّ صلى اللّه عليه و اله و سلم‏

تفسير من وحى القرآن، ج‏8، ص 267

باختيار صهره و ابن عمه محاباة له، الأمر الذي يحتاج إلى حماية إلهيّة في الوجدان العام للناس.
و هذا هو الذي يستوحيه المتدبر في الآية، لأن الظاهر منها هو العصمة الرساليّة، بمعنى إضعاف موقف القوى المضادة التي تريد استغلال نقاط الضعف في المسألة المطروحة على مستوي إثارة الحساسيات الاجتماعية، لا العصمة الجسديّة بإبعاده عن الاعتداء عليه جسديّا بالجرح أو القتل، لأن السياق بعيد عن ذلك، هذا مع ملاحظة أن السورة مدنيّة، فلا وجه لما ذكر في الروايتين الأولى و الثانية من نزولها عليه في بداية الدعوة

الثبات في حمل الرسالة
و في مطلق الأحوال، فإن في هذا النداء الإلهي للرسول صلى اللّه و عليه و اله و سلم الكثير من اللهجة الحاسمة، و الكثير من الإيحاء بالامتداد في حمل الرسالة و الثبات في مواقعها، لأن قضية الرسالة ليست كلمة تقال بحذر، و ليست موقفا يتّخذ بحياء، بل هي الكلمة القويّة الهادرة الّتي تنفذ إلى النفوس بقوّة، و تواجه العقبات بالتحدي، و تتحرك في ساحة الصراع بحيويّة و ثبات،

و هي الموقف الذي يجابه المواقف المضادة بطريقة حاسمة لا مجال فيها لسياسة اللف و الدوران، و المجاملات المائعة الخجولة، ذلك لأن الدور الرسالي يمثل إرادة التغيير في المفاهيم و الوسائل و الأهداف، و تفجير المشكلة من الداخل، و تحويلها إلى حالة صراع يثير النزاع و الخلاف و الاهتزاز و تجاذب المواقف من أجل أن تكون النتائج النهائيّة خاضعة لعمليّة غربلة و تقييم و تفتيت للواقع‏

تفسير من وحى القرآن، ج‏8، ص 268

الذي يراد تغييره، لئلا تبقى الرواسب الماضية عقبة نفسيّة أمام التغيير الداخلي الذي يفسح المجال لتغيير الواقع.

و هكذا أراد اللّه لرسوله أن يتجاوز كل المخاوف الّتي قد تعطل الحركة، و تمنع المبادرة، و تربك المسيرة يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ‏ و لا تلتفت إلى السلبيات الّتي قد يثيرها هذا الفريق أو ذاك ضد القضايا التي يريد اللّه أن تبلّغها للناس، و لا تتوقف أمام الكلمات اللامسؤولة الّتي قد يطلقها بعض الحاقدين و الكافرين ليشوهوا الموقف، و ليثيروا الغبار من حولك، ليمنعوا الرؤية الواضحة للأشياء، وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ‏، و يتصاعد النداء، و تعنف اللهجة، و تشتد الكلمة في أجواء ا

لإيحاء، و يتوقف المتأمل أمام هذه الفقرة، ليتساءل: ماذا هناك؟ فقد نزلت هذه الآية، بعد أن كاد الرسول يبلغ نهاية المطاف في تبليغ رسالته، بكل الأساليب الحكمية الرسالية التي كانت تعنف حينا و ترق أحيانا، و عانى الكثير الكثير من الجهد و التعب و الجهاد في سبيل ذلك، في الحروب الّتي خاضها في مواجهة التحديات الكافرة،

و في حملات العداء الّتي تحملها بصبر و مسئوليّة، و في الكلمات القاسية الشاتمة الشامتة التي سمعها من المشركين فأعرض عنها استجابة لنداء اللّه، فما القضية الجديدة الّتي يعتبر ترك تبليغها بمثابة الموقف الذي يلغي كل ذلك الجهد و التعب و المعاناة، فكأنه لم يفعل شيئا، و لم يبلغ حكما أو آية أو رسالة؟
كيف نستوحي هذه الآية؟

ماذا نستوحي من أجواء هذه الآية الّتي تؤكد الإصرار على الالتزام بالتبليغ في قضايا الفكر و التشريع الإسلاميّة الصعبة، المثيرة لعلامات‏

تفسير من وحى القرآن، ج‏8، ص 269

الاستفهام، حول الذات و الطريق المتحركة بأكثر من قضيّة اتهام، في الدوافع و الغايات؟ و لا تتوقف الآية عند ذلك، بل تعمل على أن لا تترك مجالا للتردد و الخوف القلق، بل تحسم الأمر كله بالكلمة الّتي تحمل ثقل المسؤوليّة لتوحي بأن القضايا الصعبة في حركة الرسالة تساوي الرسالة، لأن قيمتها تتمثل بالموقف الذي يركز القاعدة في موقع التحديات، و

يفتح الآفاق على امتدادات الصراع. فإذا اهتز الموقف فإن القاعدة تصبح في قبضة اهتزازات الرياح و هدير العواصف، و

إذا اختنقت الآفاق بنوازع الخوف و التردد، فإن الصراع سيفقد قوته و حيويته، و يختنق بأجواء المأساة، و تتصاعد الكلمة لتأخذ مجالها الروحي الإلهي، بكل ما لمعنى الألوهيّة من قوّة و عظمة، و بكل ما لكلمة الناس أمامها من ضعف و حقارة، ليرتفع الإنسان من خلال ذلك إلى الرحاب الواسعة حيث الشعور بالروحية المنفتحة الممتدة في آفاق اللّه، فيوحي له بالطمأنينة و السلام و الأمان أمام كل التحديات من كل الناس، فها هو الوعد الإلهي بالعصمة من الناس، من كل ما يفكر فيه الناس، و من كل ما يخططون له، أو يتحركون فيه.

ماذا يستوحي العاملون لله من ذلك كله؟
إن هناك أكثر من فكرة إسلاميّة يدور حولها الجدل في الساحة الفكرية في كل زمن كان للفكر فيه ساحة للصراع.
و إن هناك أكثر من موقف إسلامي يختلف فيه الناس، في سلبياته و إيجابياته، في انسجامه مع المواقف التي يألفها الناس، و في ابتعاده عنها، في مجالات تعدد المواقف و اهتزازها، و إن هناك أكثر من جهة، أو شخص، ممن‏

تفسير من وحى القرآن، ج‏8، ص 270

يتحركون في الساحة العامّة، يطلب منهم موقف مؤيد أو معارض من خلال المواقف التي يقفونها، مما يكلّف الكثير من التضحيات، و يضع الكثير من الصعوبات، و قد لا يكون هناك مجال للابتعاد عن الساحة، أو الغياب عن الموقف أو الاختفاء وراء الكلمات الضبابيّة أو الأوضاع الرمادية فلا بدّ من الموقف الإيجابي للفكر و للموقف،

و هنا يأتي دور الحسم الإلهي بعدم التراجع، و بحتميّة الإقدام و الإبلاغ و الوقفة الحاسمة، ينطلق مع ذلك الوعد بالعصمة من كل عوامل الخوف من الناس المحيطة بالموقف إن وحي هذه الآية يعطينا فكرة الموقف و هي أن التقية قد تكون في القضايا الصغيرة المتعلقة بالشخص و بتفصيلات التحرّك الخاضعة لإمكانات التغيير و التبديل من دون مساس بجوهر القضية الأساسيّة، أما القضايا الكبيرة فلا مجال فيها للتقية، لأن ذلك يحجب وضوح الرؤية عن الناس و يؤدي بهم إلى الوقوع في قبضة الكفر و الضياع، و ه

ذا مما لا تسمح به طبيعة الرسالة الّتي أنزلها اللّه لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، و لتنقذهم من الضلال لتفتح لهم أبواب الهدى، فإن ذلك قد يلغي دور الرسالة في الساحة، و بالتالي وجودها.

إن من وحي هذه الآية، أن الداعية إلى اللّه لا يتجمّد عند حسابات الأشياء في نطاق الظروف الموضوعيّة المحيطة به لتكون بمثابة القضاء و القدر اللذين لا يستطيع الناس تجاوزهما لما يمثلانه من الحتميّة في حركة الحياة، بل ينبغي له أن يتجاوزها بعض الشي‏ء بروح المغامرة الإيمانية المرتكزة على الثقة باللّه الذي قد يخلق له ظروفا داخليّة في نفوس الناس، و خارجيّة في حركة حياتهم،

فتوجه الأمر إلى اتجاه يختلف عن الاتجاه الذي تمثله الظروف العادية. إن الالتزام بالظروف المحيطة بالساحة و بالداعية، بالدقّة التي يتصوّرها البعض، قد يوقع الداعية إلى اللّه و العامل في سبيله، في قبضة الاستسلام للأمر الواقع، و في تمجيد روح الاندفاع و المغامرة في اتجاه الآفاق البعيدة الّتي‏

تفسير من وحى القرآن، ج‏8، ص 271

تحمل في رحابها معاني الفتوحات، و تلك هي قصة الإيمان باللّه الّتي توحي للإنسان بمراعاة سنن اللّه المألوفة في الكون في ما تمثله الظروف و الأسباب المألوفة، كما توحي له بانتظار الخفيّ من ألطافه في ما يعلمه من الأسباب و السنن الّتي لا يدركها الإنسان، لأنها بعيدة عن موضع إدراكه الحسيّ و الوجداني.

نسخه شناسی

درباره مولف

کتاب شناسی

منابع: 

فضل الله سيد محمد حسين‏، تفسير من وحى القرآن‏، بيروت‏، دار الملاك للطباعة و النشر، 1419 ق، چاپ دوم، ‏ ج‏8، صص 260 - 271