آیه 67، سوره مائده : فتح القدير
فتح القدير، ج2 ، ص 68
[سورة المائدة (5): آية 67]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67)
العموم الكائن في ما أُنْزِلَ يفيد أنه يجب عليه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يبلغ جميع ما أنزله اللّه إليه لا يكتم منه شيئا.
و فيه دليل على أنه لم يسرّ إلى أحد مما يتعلق بما أنزله اللّه إليه شيئا، و لهذا ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت:
من زعم أن محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم كتم شيئا من الوحي فقد كذب. و في صحيح البخاري من حديث أبي جحيفة وهب بن عبد اللّه السوائي قال: قلت لعليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه:
هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: لا و الذي فلق الحبة و برأ النسمة، إلا فهما يعطيه اللّه رجلا في القرآن و ما في هذه الصحيفة، قلت: و ما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل،
و فكاك الأسير، و أن لا يقتل مسلم بكافر. وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ما أمرت به من تبليغ الجميع بل كتمت و لو بعضا من ذلك فما بلّغت رسالاته. قرأ أبو عمرو و أهل الكوفة إلا شعبة رِسالَتَهُ على التوحيد. و قرأ أهل المدينة و أهل الشام رسالاته على الجمع، قال النحاس: و الجمع أبين لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان ينزل عليه الوحي شيئا فشيئا، ثم يبينه، انتهى.
و فيه نظر، فإنّ نفي التبليغ عن الرسالة الواحدة أبلغ من نفيه عن الرسالات، كما ذكره علماء البيان على خلاف في ذلك، و قد بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لأمته ما نزل إليهم، و قال لهم في غير موطن: هل بلغت؟ فيشهدون له
______________________________
(1). الأعراف: 181.
فتح القدير، ج2، ص 69
بالبيان، فجزاه اللّه عن أمته خيرا؛ ثم إنّ اللّه سبحانه وعده بالعصمة من الناس دفعا لما يظنّ أنه حامل على كتم البيان، و هو خوف لحوق الضّرر من الناس، و قد كان ذلك بحمد اللّه فإنه بيّن لعباد اللّه ما نزل إليهم على وجه التمام،
ثم حمل من أبي من الدخول في الدين على الدخول فيه طوعا أو كرها و قتل صناديد الشرك و فرّق جموعهم و بدّد شملهم، و كانت كلمة اللّه هي العليا، فأسلم كلّ من نازعه ممن لم يسبق فيه السيف العذل حتى قال يوم الفتح لصناديد قريش و أكابرهم:
ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم و ابن أخ كريم فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، و هكذا من سبقت له العناية من علماء هذه الأمة يعصمه اللّه من الناس، إن قام ببيان حجج اللّه و إيضاح براهينه،
و صرخ بين ظهراني من ضادّ اللّه و عانده و لم يمتثل لشرعه كطوائف المبتدعة، و قد رأينا من هذا في أنفسنا و سمعنا منه في غيرنا ما يزيد المؤمن إيمانا و صلابة في دين اللّه و شدّة شكيمة في القيام بحجة اللّه، و كل ما يظنه متزلزلو الأقدام و مضطربو القلوب من نزول الضرر بهم و حصول المحن عليهم فهو خيالات مختلفة و توهمات باطلة،
فإنّ كلّ محنة في الظاهر هي منحة في الحقيقة، لأنها لا تأتي إلا بخير في الأولى و الأخرى إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ «1» قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ جملة متضمّنة لتعليل ما سبق من العصمة؛ أي إن اللّه لا يجعل لهم سبيلا إلا الإضرار بك، فلا تخف و بلغ ما أمرت بتبليغه.
و قد أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن مجاهد قال: لما نزلت بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ قال: يا رب إنما أنا واحد كيف أصنع؟
يجتمع عليّ الناس، فنزلت وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ. و أخرج أبو الشيخ عن الحسن أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:
«إن اللّه بعثني برسالته فضقت بها ذرعا، و عرفت أن الناس مكذّبي، فوعدني لأبلغن أو ليعذّبني، فأنزلت يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ يعني إن كتمت آية مما أنزل إليك لم تبلغ رسالته.
و أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه و ابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يوم غدير خمّ في عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه.
و أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقرأ على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك- إن عليا مولى المؤمنين- و إن لم تفعل فما بلّغت رسالته و اللّه يعصمك من الناس».
و أخرج ابن أبي حاتم عن عنترة قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إن ناسا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئا لم يبده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم للناس، فقال: ألم تعلم أنّ اللّه قال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ و اللّه ما ورّثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سوداء في بيضاء.
و أخرج ابن مردويه و الضياء في المختارة عن ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سئل: أيّ آية أنزلت من السماء أشدّ عليك؟
فقال: كنت بمنى أيام موسم، فاجتمع مشركو العرب و أفناء الناس في الموسم، فأنزل عليّ جبريل فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ الآية، قال: فقمت عند العقبة فناديت يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلّغ رسالة ربي و له الجنة، أيها الناس قولوا لا إله إلا اللّه و أنا رسول اللّه إليكم،
______________________________
(1). ق: 37.
فتح القدير، ج2، ص 70
تفلحوا و تنجحوا و لكم الجنة، قال: فما بقي رجل و لا امرأة و لا صبيّ إلا يرمون بالتراب و الحجارة و يبزقون في وجهي و يقولون: كذاب صابئ، فعرض عليّ عارض فقال:
يا محمد إن كنت رسول اللّه فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:
«اللهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون»، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم و طردهم عنه. قال الأعمش: فبذلك يفتخر بنو العباس و يقولون: فيهم نزلت:
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «1» هوي النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أبا طالب، و شاء اللّه عباس بن عبد المطلب.
و أخرج عبد بن حميد و الترمذي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و الحاكم و ابن مردويه، و أبو نعيم و البيهقي كلاهما في الدلائل عن عائشة قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يحرس حتى نزلت وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فأخرج رأسه من القبة فقال: «أيها الناس انصرفوا فقد عصمني اللّه».
قال الحاكم في المستدرك: صحيح الإسناد و لم يخرّجاه. و أخرج الطبراني و ابن مردويه من حديث أبي سعيد. و قد روي في هذا المعنى أحاديث. و أخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد اللّه قال: «لما غزا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بني أنمار نزل ذات الرقيع بأعلى نخل، فبينما هو جالس على رأس بئر قد دلّى رجليه،
فقال الوارث من بني النجار: لأقتلنّ محمدا، فقال له أصحابه: كيف تقتله؟ قال: أقول له أعطني سيفك فإذا أعطانيه قتلته به؛ فأتاه فقال: يا محمد أعطني سيفك أشمه «2»، فأعطاه إياه، فرعدت يده حتى سقط السيف من يده، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «حال اللّه بينك و بين ما تريد،
فأنزل اللّه سبحانه يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ الآية. قال ابن كثير: و هذا حديث غريب من هذا الوجه. و أخرج ابن حبان في صحيحه و ابن مردويه عن أبي هريرة نحو هذه القصة و لم يسمّ الرجل. و أخرج ابن جرير من حديث محمد بن كعب القرظي نحوه، و في الباب روايات. و قصة غورث بن الحارث ثابتة في الصحيح، و هي معروفة مشهورة.
شوكانى محمد بن على، فتح القدير، دمشق، بيروت، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب، 1414 ق، چاپ اول، ج2 ، صص 68 - 70