مائده: آیه 106

قوله تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى‏ وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (آیه 106)
آية بلا خلاف.
ذكر الواقدي و ابو جعفر (ع) أن سبب نزول هذه الآية ما قال أسامة بن زيد عن أبيه قال: كان تميم الداري و أخوه عدي نصرانيين و كان متجرهما الى مكة، فلما هاجر رسول اللَّه (ع) الى المدينة قدم ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص المدينة و هو يريد الشام تاجراً فخرج هو و تميم الداري و أخوه عدي حتى إذا كانوا ببعض الطريق مرض ابن أبي مارية فكتب وصية بيده و دسها في متاعه و أوصى اليهما و دفع المال اليهما و قال أبلغا هذا أهلي، فلما مات فتحا المتاع و أخذا ما أعجبهما منه ثم رجعا بالمال الى الورثة، فلما فتش القوم المال فقدوا بعض ما كان خرج به صاحبهم، و نظروا الى الوصية فوجدوا المال فيها تاماً و كلموا تميماً و صاحبه، فقالا: لا علم لنا به و ما دفعه إلينا أبلغناه كما هو، فرفعوا أمرهم الى النبي (ص) فنزلة هذه الآية.
قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ» قيل في معنى الشهادة- هاهنا- ثلاثة أقوال:
أحدها- الشهادة التي تقام بها الحقوق عند الحكام.
الثاني- شهادة الحضور لوصيين.
الثالث- شهادة أيمان باللَّه إذا ارتاب بالوصيين من قول القائل: أشهد باللَّه اني لمن الصادقين. و الأول أقوى و أليق بالقصة. و في كيفية الشهادة قيل قولان:
أحدهما- أن يقول صحيحاً كان أو مريضاً: إذا حضرني الموت فافعلوا كذا و كذا. ذكره الزجاج.
الثاني- إذا حضرت أسباب الموت من المرض و قيل في رفع «شهادة» ثلاثة أقوال:
أحدها- أن يكون رفعاً بالابتداء و تقديره شهادة بينكم: شهادة اثنين، و يرتفع (اثنان) بأنه خبر الابتداء ثم حذف المضاف و أقيم المضاف اليه مقامه.
قال أبو علي الفارسي: و اتسع في (بين) و أضيف اليه المصدر، و ذلك يدل على قول من يقول: ان الظرف الذي يستعمل يجوز أن يستعمل اسماً في غير الشعر، كما قال تعالى «لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ» 1 فيمن رفع. و جاء في الشعر:
فصادف بين عينيه الجبوبا 2
الثاني- على تقدير محذوف و هو عليكم شهادة بينكم أو مما فرض عليكم شهادة بينكم، و يرتفع اثنان بالمصدر ارتفاع الفاعل بفعله.
و الثالث- ان يكون الخبر «إِذا حَضَرَ» فعلى هذا لا يجوز أن يرتفع (اثنان) بالمصدر، لأنه خارج عن الصلة بكونه بعد الخبر، لكن على تقدير ليشهد اثنان، و لا يجوز أن يتعلق إذا حضر بالوصية لأمرين:
أحدهما- ان المضاف اليه لا يعمل فيما قبل المضاف، لأنه لو عمل فيما قبله للزم أن يقدر وقوعه في موضعه فإذا قدِّر ذلك لزم تقديم المضاف عليه على المضاف، و من ثم لم يجز (القتال زيداً) حين يأتي.
و الآخر ان الوصية مصدر، فلا يتعلق به ما يتقدم عليه.
و قوله «إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ» يعني قرب أحدكم من الموت كما قال «حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ» 3 و قال «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا»4
و قال‏ «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ» 5 و كل ذلك يريد به المقاربة. و لولا ذلك لما أسند اليه القول بعد الموت.

و قوله «حِينَ الْوَصِيَّةِ» فلا يجوز أن يحمل على الشهادة، لأنها إذا عملت في ظرف من الزمان لم تعمل في ظرف آخر منه، و يمكن حمله على أحد ثلاثة أشياء:
أحدها- أن تعلقه بالموت كان الموت في ذلك الحين بمعنى قرب منه.
الثاني- على حضر أي إذا حضر: هذا الحين.
الثالث- أن يحمله على البدل من (إذا) لأن ذلك الزمان في المعنى هو ذلك الزمان، فيبدله منه، و يكون بدل الشي‏ء من الشي‏ء إذا كان إياه. و قوله «اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ» خبر المبتدإ الذي هو (شهادة) و تقديره شهادة بينكم شهادة اثنين على ما بيناه، لان الشهادة لا تكون إلا من اثنين و قوله «منكم» صفة لقوله «اثنان» كما ان (ذوا عدل) صفة لهما، و في الظرف ضمير. و في معنى (منكم) قولان:
أحدهما- قال سعيد بن المسيب و عبيدة و يحيى بن يعمر و مجاهد و قتادة و ابن عباس:
أي من المسلمين، و هو قول أبي جعفر و أبي عبد اللَّه (ع).
الثاني- قال سعيد بن المسيب و عبيدة- في رواية اخرى- و عكرمة:
إنهما من حي الموصي و الاول أظهر و أصح، و هو اختيار الرماني، لأنه لا حذف فيه. و قوله «أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» تقديره أو شهادة آخرين من غيركم، و حذف المضاف و أقام المضاف اليه مقامه. و (من غيركم) صفة للآخرين.
و قيل في معنى «من غيركم» قولان:
أحدهما قال ابن عباس و أبو موسى الاشعري و سعيد بن المسيب و سعيد ابن جبير و شريح و ابراهيم و ابن سيرين و مجاهد و ابن زيد و اختاره أبو علي الجبائي، و هو قول أبي جعفر و أبي عبد اللَّه (ع) أنهما من غير أهل ملتكم.

الثاني- قال عكرمة و عبيدة- بخلاف عنه- و ابن شهاب و الحسن:
يعني من غير عشيرتكم. قال الحسن لأن عشيرة الموصي أعلم بأحواله من غيرهم، و هو اختيار الزجاج. قال: لأنه‏
لا يجوز قبول شهادة الكفار مع كفرهم و فسقهم و كذبهم على اللَّه. و معنى (أو)- هاهنا- للتفصيل لا للتخيير، لأن المعنى أو آخران من غيركم إن لم تجدوا منكم، و هو قول أبي عبيدة و شريح و يحيى بن يعمر و ابن عباس و ابراهيم و سعيد بن جبير و السدي، و هو قول أبي جعفر و أبي عبد اللَّه (ع).
و قال قوم: هو بمعنى التخيير فيمن ائتمنه الموصي من مؤمن أو كافر.
و قوله «إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ» يعني ان أنتم سافرتم كما قال «وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ» 6.
و قوله «فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ» فيه محذوف، و تقديره و قد اسنتم الوصية اليهما فارتاب الورثة بهما تحبسونهما.
و قوله «تَحْبِسُونَهُما» خطاب للورثة و الهاء في (به) تعود الى القسم باللَّه.
و الصلاة المذكورة في هذه الآية قيل فيها ثلاثة أقوال:
أولها- قال شريح و سعيد بن جبير و ابراهيم و قتادة، و هو
قول أبي جعفر (ع) أنها صلاة العصر.
الثاني- قال الحسن: هي الظهر أو العصر، و كل هذا لتعظيم حرمت وقت الصلاة على غيره من الأوقات. و قيل: لكثرة اجتماع الناس كان بعد صلاة العصر.
الثالث- قال: ابن عباس صلاة اهل دينهما يعني في الذميين لأنهم لا يعظمون أوقات صلاتنا.
و قوله «فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ» الفاء دخلت لعطف جملة (ان ارتبتم) في قول الآخرين الذين ليسا من أهل ملتنا أو من غير قبيلة الميت فغلب في ظنكم‏ خيانتهم، و لا خلاف أن الشاهد لا يلزمه اليمين إلا أن يكونا شاهدين على وصية مستندة اليهما فيلزمهما اليمين لأنهما مدعيان. و قوله «لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً» لا نشتري جواب ما يقتضيه قوله «فيقسمان» لان (أقسم) و نحوه يتلقى بما تتلقى به الايمان. و معنى قوله «لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً» لا نشتري بتحريف شهادتنا ثمنا، فحذف المضاف و ذكر الشهادة، لأن الشهادة قول كما قال «وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى‏ ...» ثم قال «فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ» 7 لما كانت القسمة يراد بها المقسوم، ألا ترى ان القسمة التي هي افراد الأنصباء لا يرزق منه. و انما يرزق من التركة، و تقديره لا نشتري به ثمنا أي ذا ثمن، ألا ترى أن الثمن لا يشترى، و انما الذي يشترى المبيع دون ثمنه، و كذلك قوله «اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا» 8 أي ذا ثمن. و المعنى انهم آثروا الشي‏ء القليل على الحق، فاعرضوا عنه و تركوه، و لا يكون (اشتروا) في الآية بمعنى (باعوا) لأن بيع الشي‏ء إخراج و إنفاذ له من البائع، و ليس المعنى- هاهنا- على الإنفاذ و انما هو على التمسك به، و الإيثار له على الحق.

و قوله «وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى‏» تقديره و لو كان المشهود له ذا قربى، و خصَّ ذو القربى لميل الناس الى قراباتهم، و من يناسبونه.
و قوله «وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ» معناه انَّا ان كتمناها لمن الآثمين. و قال (شهادة اللَّه) فأضاف الشهادة الى اللَّه لأمره بها و بإقامتها و النهي عن كتمانها في قوله «وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» 9و قوله «وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ» 10.

  • 1. سورة 6 الانعام آية 94.
  • 2. قائله أبو خراش الهذلي. اللسان (بين) و صدره:فلاقته ببلقعة براح يصف عقابا. و الجبوب- بفتح الجيم- وجه الأرض. و البلقع المكان الخالي، و براح صفة له. و الشاهد ضم النون في (بين).
  • 3. سورة 4 النساء آية 17
  • 4. سورة 6 الانعام آية 61
  • 5. سورة 23 المؤمنون آية 100.
  • 6. سورة 4 النساء آية 100.
  • 7. سورة 4 النساء آية 7
  • 8. سورة 9 التوبة آية 10 [.....]
  • 9. سورة 2 البقرة آية 283
  • 10. سورة 65 الطلاق آية 2