نساء: آیه 11

قوله تعالى:

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (آیه 11)
- آية بلا خلاف-.

القراءة و الحجة:

قرأ ابن عامر، و ابن كثير، و أبو بكر، عن عاصم: يوصى- بفتح الصاد- الباقون بكسرها، و هو الأقوى، لقوله: «مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ» فتقدم ذكر الميت، و ذكر المفروض مما ترك 1، و من فتحها فلأنه ليس لميت معين، و إنما هو شائع في الجميع.

سبب النزول و القصة:
و قيل في سبب نزول هذه الآية قولان:
أحدهما- قال السدي، و ابن عباس: إن سبب نزولها، أن القوم لم يكونوا يورثون النساء و البنات و البنين الصغار، و لم يورثوا إلا من قاتل و طاعن، فأنزل اللَّه الآية، و أعلمهم كيفية الميراث. و قال عطاء، عن ابن عباس، و ابن جريج، عن مجاهد، عن ابن عباس، إنهم كانوا يورثون الولد، و للوالدين الوصية، فنسخ اللَّه ذلك. و قال محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: كنت عليلا مدنفا، فعادة النبي (ص)، و نضح الماء على وجهه فأفاق، و قال: يا رسول اللَّه، كيف أعمل‏

في مالي: فأنزل اللَّه الآية.

و روي عن ابن عباس أنه قال: كان المال للولد، و الوصية للوالدين و الأقربين، فنسخ 2 ذلك بهذه الآية.
المعنى:
و هذه الآية عامة في كل ولد يتركه الميت، و ان المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، و كذلك حكم البنت و البنتين. و البنت 3 لها النصف، و لهما الثلثان على كل حال، إلا من خصه الدليل من الرق، و الكفر، و القتل، فانه لا خلاف أن الكافر، و المملوك، و القاتل عمداً، لا يرثون، و إن كان القاتل خطأ، ففيه الخلاف و عندنا يرث من المال دون الدية. فأما المسلم فانه عندنا يرث الكافر، و فيه خلاف، ذكرناه في مسائل الخلاف،
و العبد لا يورث لأنه لا يملك شيئاً، و المرتد لا يرث و ميراثه لورثته المسلمين، و هذا قول علي (ع).
و قال سعيد بن المسيب: نرثهم و لا يرثونا و به قال معاوية، و الحسن، و عبد اللَّه بن معقل، و مسروق و قوله (ص) (لا يتوارث أهل ملتين)
معناه: لا يرث كل واحد منهما صاحبه، فانا نقول: المسلم يرث الكافر، و الكافر لا يرث المسلم، فلم تثبت حقيقة التوارث بينهما.
و معنى «يُوصِيكُمُ اللَّهُ» فرض عليكم، لأن الوصية من اللَّه فرض، كما قال: «وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ» 4 يعني فرض، عليكم، ذكره الزجاج، و إنما لم يعد قوله: «يوصيكم» إلى (مثل) فينصبه، لأنه كالقول في حكاية الجملة بعده، و التقدير: قال اللَّه: «فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» و لأن الغرض بالآية الفرق بين الموصى به و الموصى له، في نحو أوصيت زيداً بعمرو.
و قوله: «فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ» فالظاهر يقتضي أن الثنتين لا يستحقان الثلثين، و إنما يستحق الثلثان إذا كن فوق اثنتين، لكن أجمعت الأمة أن حكم البنتين حكم من زاد عليهما من البنات، فتركنا له الظاهر. و قال أبو العباس المبرد، و اختاره إسماعيل بن إسحاق القاضي: إن في الآية دليلا على أن للبنتين الثلثين، لأنه إذا قال: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» و كان أول العدد ذكراً و أنثى، للذكر الثلثان و للأنثى الثلث علم من ذلك أن للبنتين الثلثين، و أعلم اللَّه أن ما فوق البنتين لهن الثلثان. و حكى الزجاج عمن قال: ذلك معلوم، بقوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) 5 فجعل للاخت النصف، كما جعل للبنت النصف، ثم قال: «فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ» 6 فأعطيت البنتان الثلثين 7، كما أعطيت الأختان الثلثين و أعطي جملة الأخوات الثلثين، فكذلك جملة البنات. و ذكر عن ابن عباس: أن البنتين بمنزلة البنت، و إنما استحق الثلثين الثلاث بنات فصاعداً. و حكى النظام، في كتاب النكت، عن ابن عباس: أن للبنتين نصفاً و قيراطاً، قال: لأن للبنت الواحدة النصف، و للثلاث بنات الثلثين، فينبغي أن يكون للبنتين ما بينهما، ثم يشتركان في النصف و قيراطا بالسوية. و قوله: «وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ» يدل على أن فاطمة (ع) كانت مستحقة للميراث، لأنه عام في كل بنت، و الخبر المدعي في أن الأنبياء لا يورثون خبر واحد، لا يترك له عموم الآية لأنه معلوم لا يترك بمظنون. و قوله:

«وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ» ليس في ذلك خلاف، و كذلك إن كان واحد من الأبوين مع الولد، كان له السدس بالتسمية، بخلا خلاف، ثم ينظر، فان كان الولد ذكراً، كان الباقي للولد واحداً كان أو أكثر، بلا خلاف، و كذلك إن كانوا ذكوراً أو اناثاً فالمال بينهم، «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» و إن كانت بنتاً كان لها النصف، و لأحد الأبوين السدس، و الباقي عندنا يرد على البنت و أحد الأبوين على قدر سهامهما، أيهما كان، لأن قرابتهما سواء، و من خالفنا يقول: إن كان أحد الأبوين اباً كان الباقي له، لأنه عصبة و إن كانت أماً ففيهم من يقول بالرد على البنت و على الأم و منهم من يقول: الباقي لبيت المال، و إنما رددنا عليهما لقوله: «وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ» 8 و هاهنا هما متساويان، لأن البنت تتقرب بنفسها إلى الميت، فكذلك أحد الأبوين، و الخبر المدعى في أن ما أبقت الفرائض فلأولي عصبة ذكر، خبر ضعيف، بينا وجهه في تهذيب الأحكام، لا يخص به عموم القرآن. و قوله «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ» فمفهومه أن الباقي للأب و ليس فيه خلاف، فان كان في الفريضة زوج كان له النصف، و للأم الثلث بالظاهر، و ما بقي فللأب.
و من قال: للأم ثلث ما يبقي، فقد ترك الظاهر، و بمثل ما قلناه قال ابن عباس، فان كان بدل الزوج زوجة، كان الأمر مثل ذلك، للزوجة الربع، و للأم الثلث، و الباقي للأب، و به قال ابن عباس، و ابن سيرين.
قوله: «فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ» ففي أصحابنا من يقول: إنما يكون لها السدس إذا كان هناك أب لأن التقدير: فان لم يكن له ولد و ورثه أبواه فلأمه الثلث، فان كان له إخوة و ورثه أبواه فلأمه السدس، و منهم من قال: إن لها السدس مع وجود الاخوة، سواء كان هناك أب أو لم يكن، و به قال جميع الفقهاء، غير أنا نقول: إن كان هناك أب، كان الباقي للأب، و إن لم يكن أب كان الباقي رداً على الأم، و لا يرث- أحد من الاخوة و الأخوات مع الأم شيئاً، سواء كانوا من قبل أب و أم أو من قبل أب، أو من قبل أم- على حال، لأن الأم أقرب منهم بدرجة، و لا يحجب عندنا من الاخوة إلا من كان من قبل الأب و الأم، أو من قبل الأب، فأما من كان من قبل الأم فحسب، فانه لا يحجب على حال، و لا يحجب أقل من أخوين، أو أخ و أختين، أو أربع أخوات، فأما الأختان فلا يحجبان على حال، و خالفنا جميع الفقهاء في ذلك فأما الأخوان 9 فلا خلاف أنه تحجب بهما الأم عن الثلث إلى السدس، إلا ما قال ابن عباس: أنه لا يحجب بأقل من ثلثة، لقوله: (إخوة) و الثلاثة أقل الجمع، و حكي عن‏ ابن عباس أيضاً: أن ما يحجبه الاخوة من سهم الأم من الثلث إلى السدس، يأخذه الاخوة دون الأب، و ذلك خلاف ما أجمعت الأمة عليه، لأنه لا خلاف أن أحداً من الاخوة لا يستحق مع الأبوين شيئاً، و إنما قلنا إن اخوة بمعنى أخوين للإجماع من أهل العصر على ذلك، و أيضاً فانه يجوز وضع لفظ الجمع في موضع التثنية إذا اقترنت به دلالة، كما قال: «إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما» 10 و يقول القائل: ضربت الرجلين أرؤسهما، و من أخويك ظهورهما.

فان قيل: لم حجب الاخوة الأم من غير أن يرثوا مع الأب؟ قلنا: قال قتادة: معونة للأب، لأنه يقوم بنفقتهم، و نكاحهم، دون الأم، و هذا بعينه رواه أصحابنا، و هو دال على أن الاخوة من الأم لا يحجبون، لأن الأب لا يلزمه نفقتهم على حال، و قوله: (آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) معناه: لا تعلمون أيهم أقرب لكم نفعاً في الدين و الدنيا، و اللَّه يعلمه، فاقسموه على ما بينه من يعلم المصلحة فيه. و قال بعضهم: الأب يجب عليه نفقة الابن إذا احتاج إليها، و كذلك الابن يجب عليه نفقة الأب مع الحاجة، فهما في النفع في هذا الباب سواء، لا تدرون أيهم أقرب نفعاً. و قيل: لا تدرون أيكم يموت قبل صاحبه، فينتفع الآخر بماله.
فان قيل: كيف قدم الوصية على الدين في هذه الآية و في التي بعدها، مع أن الدين يتقدم عليها بلا خلاف؟ قلنا: لأن (أو) لا توجب الترتيب، و إنما هي لأحد الشيئين، فكأنه قال: من بعد أحد هذين، مفرداً أو مضموماً إلى الآخر كقولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين، أي جالس أحدهما مفرداً أو مضموماً إلى الآخر و يجب البدأة بالدين، لأنه مثل رد الوديعة التي يجب ردها على صاحبها، فكذلك حال الدين، وجب رده أولًا، ثم يكون بعده 11 الوصية، ثم الميراث.
و ما قلناه اختاره الجبائي، و الطبري، و هو المعتمد عليه في تأويل الآية. و قوله:

«فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ» نصب على الحال من قوله: (لأبويه) و تقديره: فلهؤلاء الورثة ما ذكرناه مفروضاً، ف (فريضة) مؤكدة لقوله: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ» هذا قول الزجاج، و قال غيره: هو نصب على المصدر من قوله: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» فرضاً مفروضاً. و قال غيره: يجوز أن يكون نصباً على التمييز من قوله: «فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ» فريضة، كما تقول: هو لك صدقة، أو هبة.
و الثلث، و الربع، و السدس، يجوز فيه التخفيف و التثقيل، فالتخفيف لثقل الضمة، و قال قوم: الأصل فيها التخفيف، و إنما ثقل للاتباع، قال الزجاج: هذا خطأ لأن الكلام وضع على الإيجاز بالتخفيف عن الثقيل.
و قوله: «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» قيل 12 في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها- قال سيبويه: كان القوم شاهدوا علماً: و حكمة، و مغفرة، و تفضلا، فقيل لهم: «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» لم يزل على ما شاهدتم عليه 13.
و الثاني- قال الحسن: كان اللَّه عليما بالأشياء قبل حدوثها، حكيما فيما يقدره و يدبره منها.
الثالث- قال بعضهم: الخبر عن هذه الأشياء بالمضي، كالخبر بالاستقبال و الحال، لأن الأشياء عند اللَّه على كل حال فيما مضى و ما يستقبل.
و إنما قال في تثنية الأب و الأم: أبوان تغليباً للفظ الأب، و يقال أيضاً للأم أبة، و لا يلزم على ذلك أن يقال: في ابن و ابنة: ابنان، لأنه يوهم، فان لم يوهم جاز ذلك ذكره الزجاج.

  • 1. في المطبوعة (ما ترك).
  • 2. في المطبوعة (فنسخ بهذه الآية) بإسقاط ذلك.
  • 3. (و البنت) ساقطة من المطبوعة. [.....]
  • 4. سورة الانعام: آية 151.
  • 5. سورة النساء: آية 175.
  • 6. سورة النساء: آية 175.
  • 7. في المخطوطة و المطبوعة (فأعطيت البنتين الثلثان) و هو لحى.
  • 8. سورة الانفال: آية 75.
  • 9. في المطبوعة (الأخوات).
  • 10. سورة التحريم: آية 4.
  • 11. في المطبوعة (هذه) بدل (بعده)
  • 12. المطبوعة (فيدخل) بدل (قيل).
  • 13. هكذا في المخطوطة و المطبوعة و العبارة فيها ما ترى.