آیه 3، سوره مائده: تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن

تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج‏3 ، ص  195   

قوله سبحانه: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ‏ التأمل في صدر الآية و ذيلها أعني قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ‏ [و قوله‏]: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏، يعطي أن يكون قوله: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ‏، إلى

قوله: دِيناً معترضا مسوقا لغاية غير غايتها، و شأن نزوله سوى شأن نزولهما، كما تنطق به روايات الخاصّة و العامّة، و من الضروري أن الرسول كان يأتي بالدين من عند ربّه شيئا فشيئا.

فقوله: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ‏، يفيد أن يكون الذين كفروا قد مكّنوا له تديّن المؤمنين منذ عهد و زمان، و أنّ أمرهم كان مخشيّا مخوفا محظورا حتى آمنهم اللّه بجوده، فهذا تأمين للمؤمنين ممّا كان يحذّرهم من سوء قصد الكفّار بهم في دينهم كما قال: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ
______________________________
(1). في المصدر:+ «قال»
(2). الكافي 6: 232.

تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج‏3، ص: 196

إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ «1».

فهذا القول يكشف عن إتيان أمر اللّه الموعود في تلك الآية، و سياق الوعد المذكور هناك يأبى أن يكون هو بعضا من الأحكام الدينيّة، إذ أركانها قد كانت نزلت قبل المائدة، كالصلاة و الصوم و الحج و الجهاد و الزكاة و الخمس و غيرها، و لم يكن التغيير إلّا بنسخ غير مترتّب، فلا معنى لإرتباط طمع الكفّار و يأسهم بها، و يأتي سياق قوله: الْيَوْمَ يَئِسَ‏ الى آخره، أن يكون ذلك بإنتهاء الفرائض و الأحكام و ختمها، و إلّا لكان النظم يوجب أن يقال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏ فلييأس الذين كفروا عن دينكم، أو فيئس الذين كفروا، و يأبى أن يكون هو المكشوف عنه بقوله في أهل الكتاب: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ‏ «2»، إذ الهدفان في الآيتين مختلفان فإحداهما تنبئ عن ضلال سعيهم و عدم تأثير أذاهم، و الأخرى تخبر عن تمكّن اليأس فيهم، و ليس قوله: الْيَوْمَ يَئِسَ‏، الى آخره، واقعة في سياق الآيات التالية كقوله: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ‏ «3»، لاختلافهما بالإعتراض و الإستئناف.

هذا كلّه مضافا إلى أنّ طمع الكفّار إنّما كان متعلّقا بالدين نفسه من غير هوى منهم في المؤمنين إلّا لتلبّسهم بشعاره، فقد كانوا يريدون إطفاء هذا النور و اخماد ناره، كما يدلّ عليه قوله: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ‏
______________________________
(1). البقرة (2): 109.
(2). آل عمران (3): 111.
(3). المائدة (5): 5.

تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج‏3، ص: 197

وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ* هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ‏ «1» و قوله: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ‏ «2». و لذلك كان همّهم في قطع شجرة الدين من أصله، و هدم بنيانه من أساسه بردّ المسلمين المؤمنين على أعقابهم، و إلقاء النفاق في جماعتهم، و أقرب من ذلك بتخليل السكون في حركة الرسول و تسرية الفتور في الهمّة النبويّة بالتطميع بما يريده من مال أو جاه كما في شأن نزول أوّل سورة ص و غيره، أو بمخالطة أو مداهنة كما قال تعالى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ‏ «3» و قال: وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا «4»، و كما ورد في شأن نزول سورة الجحد.

و لو كان انقطع طمعهم من كلّ سبب فلم يكن ينقطع ممّا كانوا يظنّونه أنّ الدعوة الاسلاميّة إنّما هي سلطنة و ملك في زيّ النبوّة و لباس الرسالة، و ما ينشره النبيّ بدعوته المقدّسة قائم بنفسه لا عماد له غيره، فلو قتل أو مات انقطع أثره و انمحى ذكره على الرسل من حال السلاطين و الملوك، كما ورد في شأن نزول سورة الكوثر و غيرها و كما مرّ في قوله: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى‏ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ‏ «5».

هذا و المتثبّت في ما مرّ من البيان بأطرافه يفيد الجزم بأنّهم ما كانوا لييأسوا
______________________________
(1). الصف (61): 8- 9.
(2). غافر (40): 14.
(3). القلم (68): 9.
(4). الإسراء (17): 74.
(5). آل عمران (3): 144.

تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج‏3، ص: 198

عن دين المؤمنين إلّا باليأس عن انقطاع ذكر النبيّ و أثره بقيام من يخلفه في تدبير أمر الدين و حفظ حدوده في مقامه، و أمّا كمال الدين بأحكامه و انتشار صيته و شيوعه بين الناس فليست بالعوامل التامّة و الأسباب الكاملة التأثير في بقائه و حياته، حتى تكون انتفائها العامل الوحيد و السبب التامّ في انتفائها كما هو الحال في كلّ سنّة محدثة بين الناس؛ و كلّ ناموس ديني أو مدني، فلا تموت سنّة أو عادة حاكمة بين الناس بقهر أو جبر أو تهديد أو نقص من أطرافها إلّا بموت حملتها و حفظتها.

هذا، و هذا يؤيّد ما ورد من طرق الخاصّة أنّ الآية نزلت في شأن الولاية:

ففي تفسير القمي في قوله: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ‏، قال: قال- عليه السلام-: ذلك لمّا أنزلت‏ «1» ولاية أمير المؤمنين- عليه السلام- «2».

أقول: و يؤيدها عدّة من الروايات وردت في قوله سبحانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏ و قوله: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ‏.
قوله سبحانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً

الأثر المترتّب على المجموع إذا انحلّ إلى أجزاء أو جهات يترتّب على بعضها بعضه و على كلّها كلّه، و بعبارة أخرى: كان أثر المجموع الكلّ مجموع آثار الأجزاء «3»، فبلوغ الشي‏ء إلى حيث يترتّب عليه الأثر كماله، و إذا لم ينحل‏
______________________________
(1). في المصدر: «نزلت»
(2). تفسير القمي 1: 162.
(3). أي يكون أثر المجموع، كمجموع آثار الأجزاء، فكلّما وجد جزء ترتّب عليه من الأثر ما هو بحسبه [كما أفاد المؤلّف- قدس سره- في الميزان في تفسير القرآن 5: 179].

تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج‏3، ص: 199

كذلك بل كان بسيطا لا يترتّب إلّا على المجموع، فبلوغه إلى حيث يؤثّر الأثر تمام له، فهذا هو الفرق بين الكمال و التمام، يقال: كمل عقله، و من كان المرء كذا و كذا، او قال تعالى: وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ «1»، و يقال: تمّت سلطنة فلان و تمّ كلامه و قال: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلًا «2».

و أمّا الفرق بين الإكمال و التكميل و الإتمام و التتميم فهو الفرق بين بابي الإفعال و التفعيل، و هو على ما يتحصّل من موارده نزلت بالبابين جميعا، أنّ الإفعال تفيد الدفعة و التفعيل للتدريج كالإعلام و التعليم، و الإنزال و التنزيل، و الإمهال و التمهيل و غيرها.

و إن كان التوسعات الكلاميّة و التطوّرات اللغويّة ربّما حوّل كلّا من البابين إلى حيث يبعد عن معنى مجرّديهما أو عن أصليهما، كالإحسان و التحسين، و الإصداق و التصديق، و الإمداد و التمديد، فتلك معان طارئة بحسب خصوصيات الموارد، ثم تمكنّت في اللفظ بالاستعمال.

و بالجملة، فتعلّق الظرف أعني قوله: الْيَوْمَ‏، بالفعل إقتضى الإتيان بالإكمال و الإتمام دون التكميل و التتميم، و اختصّ الكمال بالدين لأنّه مجموع الأحكام و الفرائض التي بعضها مرضيّة مأمور بها قبل نزول الباقي، بخلاف النعمة، و لذلك أضيفت إلى ضمير الخطاب دون المتكلّم، إذ الدين الذي عند اللّه واحد قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ‏ «3» و أمّا النعمة فهي و إن كانت كلّ ما يلائم طبع الشي‏ء من غير مصادفة بالمزاحم عن مقتضى طبعه، و الموجودات‏
______________________________
(1). البقرة (2): 185.
(2). الأنعام (6): 115.
(3). آل عمران (3): 19.

تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج‏3، ص: 200

من حيث اتّحاد نظام التدبير متّصلة مرتبطة، و الجميع أو العمدة (الأكثر) منها نعمة بالنسبة إلى كلّ بعض الفروض، قال تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «1» و قال: وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً «2».
إلّا أنّه سبحانه: عدّ عدّة من هذه المسمّاة بالنعم شرّا و وبالا كقوله: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ‏ «3»، و كقوله: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ* مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ «4»،

و قوله: وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ‏ «5»، فعدّ الحياة الدنيا و هي المتعلّقة بهذه النعم الموجودة فيها الظاهرة و الباطنة متاعا مقصودا بالغير لا شرف و لا كمال فيها إلّا لغايتها، فعلمنا بذلك أنّ هذه النعم إنّما هي نعم و خير لغايتها و هي القرب من اللّه و الكرامة عند اللّه، فهي الخير و النعمة بذاتها، و غيرها من النعم كذلك على حسب اشتمالها و قد مرّ و سيجي‏ء أنّها هي التي نسمّيها بالولاية، فالنعمة بالحقيقة هي الولاية من اللّه- سبحانه-، و لذلك فسّرت النعمة في القرآن في عامّة مواردها بها في أخبار أهل البيت عليهم السلام.

و من هنا أتى بالنعمة بصيغة الإفراد و أضيفت إلى الضمير، و إذ تحقّق كمال الدين في ظاهره و تمامه في باطنه أتبع ذلك بقوله: وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ‏ «6»، و قد مرّ الكلام في معنى الإسلام و أنّه‏
______________________________
(1). إبراهيم (14): 34.
(2). لقمان (31): 20.
(3). آل عمران (3): 178.
(4). آل عمران (3): 196- 197.
(5). العنكبوت (29): 64.
(6). آل عمران (3): 19.

تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج‏3، ص: 201

الكمال المحصّل من ظاهر الدين و باطنه معا.

و قد تكاثرت الروايات من الفريقين في نزول الآية في شأن الولاية:

ففي المجمع عن الباقر و الصادق- عليهما السلام-: إنّما نزل‏ «1» بعد أن نصب النبي- صلّى اللّه عليه و آله- عليا- عليه السلام- علما للأنام يوم غدير خم عند منصرفه عن حجّة الوداع قالا: و هي‏ «2» آخر فريضة أنزلها اللّه [تعالى‏] ثمّ لم تنزل‏ «3» بعدها فريضة «4».

أقول: و سيأتي شرح آخر الرواية.

و من طرق العامّة عن المناقب لأحمد بن الموفّق مسندا: عن أبي سعيد الخدري: أنّ النبيّ- صلّى اللّه عليه و آله- يوم دعا الناس إلى غدير خم أمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فقمّ؛ و ذلك يوم الخميس يوم‏ «5» دعا الناس إلى عليّ و أخذ «6» بضبعه ثم رفعها «7» حتى نظر الناس إلى بياض إبطه [- صلّى اللّه عليه و آله و سلم-] ثمّ لم يفترقا «8» حتى نزلت هذه الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً.
فقال رسول اللّه [- صلّى- اللّه عليه و آله-]: اللّه أكبر على إكمال الدين و إتمام النعمة و رضى الربّ برسالاتي و الولاية لعليّ، ثم قال: من كنت مولاه فعلي‏
______________________________
(1). في المصدر: «أنزل»
(2). في المصدر: «هو»
(3). في المصدر: «لم ينزل»
(4). مجمع البيان 3: 274.
(5). في المصدر: «ثم»
(6). في المصدر: «فأخذ»
(7). في المصدر: «فرفعها»
(8). في المصدر: «لم يتفرّقا»

تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج‏3، ص: 202

مولاه اللّهم و ال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره و اخذل من خذله، فقال حسّان بن ثابت: إئذن لي يا رسول اللّه أن أقول أبياتا، قال: قل ببركة اللّه تعالى:

فقال حسّان بن ثابت: يا معشر مشيخة قريش اسمعوا شهادة رسول اللّه [- صلّى اللّه عليه و آله-] ثم قال:
يناديهم يوم الغدير نبيّهم‏  بخم و اسمع بالنبيّ مناديا
 

بأنّي مولاكم نعم و وليّكم‏ «1»  فقالوا و لم يبدو [ا] هناك التعاميا
 

إلهك مولانا و أنت وليّنا  و لا تجدنّ في الخلق للأمر عاصيا
 

فقال له: قم يا علي فإنّني‏  رضيتك من بعدي إماما و هاديا «2»
 

أقول: و الروايات في قصّة غدير خمّ متجاوزة حدّ التواتر رواها جمّ غفير من رجال الفريقين، و في عدة منها نزول قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ‏ بعد نصب النبيّ [- صلّى اللّه عليه و آله-] عليّا- عليه السلام- «3».

و من لطائف هذه الرواية ما تشتمل عليه من شعر حسّان و فهمه و فهم الصحابة من قوله- صلّى اللّه عليه و آله-: من كنت مولاه فعليّ مولاه،- الى آخره-، الإمامة و الهداية، كما يدلّ عليه قوله- صلّى اللّه عليه و آله-: و انصر من نصره و اخذل من خذله،- الى آخره-، و تقرير النبيّ- صلّى اللّه عليه و آله- لهم ذلك.

و قد ورد نظيره في شعر نفر من الصحابة غيره، كقيس بن سعد و عمرو بن العاص.
______________________________
(1). في المصدر: «و نبيّكم»
(2). المناقب، للخوارزمي: 135- 136.
(3). راجع: تأويل الآيات 1: 145؛ و الغدير.

تفسير البیان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج‏3، ص: 203

و قوله صلّى اللّه عليه و آله بعد نزول الآية: اللّه أكبر على إكمال الدين و إتمام النعمة و رضى الربّ برسالاتي و الولاية لعلي،- الى آخره-.

و قد ورد في عدّة من روايات الخاصّة «1»، و هو يؤيّد ما تقدم في معنى الآية أنّ المراد بالنعمة الولاية، إذ قوله- صلّى اللّه عليه و آله-: و رضى الربّ برسالاتي و الولاية لعلي، الى آخره، محاذ لقوله تعالى: وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً، و قد مرّ أنّ الإسلام هو مجموع الدين و النعمة، فالدين: رسالاته- صلّى اللّه عليه و آله- و النعمة: الولاية.

و في الإحتجاج عن ابن أذينة، عن أبي جعفر- عليه السلام-: إنّ الفريضة كانت تنزل ثم تنزل الفريضة الأخرى، فكانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل اللّه:

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً، فقال أبو جعفر- عليه السلام-: يقول اللّه: إنّه‏ «2» لا أنزل عليكم بعد هذه الفريضة فريضة «3».

أقول: و روي هذا المعنى في الكافي و تفسيري القمي و العيّاشي عنه- عليه السلام- «4».

قوله- عليه السلام-: فكانت الولاية آخر الفرائض،- الى آخره- إطلاق الفريضة على الولاية بالنظر إلى ما سيجي‏ء من تفسيره عند قوله سبحانه: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا «5»، من كونها معنى مشكّكا ذا مراتب بعض‏
______________________________
(1). بشارة المصطفى: 211؛ الإحتجاج 1: 254؛ إعلام الورى: 133؛ بحار الأنوار 37: 179.
(2). في المصدر:- «إنه»
(3). لم نجده في الإحتجاج لكن روي في تفسير العياشي 1: 293.
(4). الكافي 1: 289؛ تفسير القمي 1: 162، تفسير العياشي 1: 293.
(5). المائدة (5): 55.

تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج‏3، ص: 204

مراتبه متعلّق بالعمل، و هي الأولويّة بالتصرّف و الطاعة، و بهذا المعنى عدّت في أخبار أخر أيضا من فرائض الدين كما في ... «1»

و قوله- عليه السلام-: يقول اللّه: إنّه لا أنزل عليكم بعد هذه الفريضة فريضة، تفسير بلازم الدلالة إذ لازم إكمال الدين أن لا ينزل بعده حكم، و أمّا تخصيص الكلام بالفريضة مع كون الدين أعمّ منها فبالنظر إلى كون الولاية فريضة.

و يشهد به ما في تفسير البرهان عن سعيد بن عبد اللّه القمّي، عن زيد الشحّام قال: كنت عند أبي عبد اللّه- عليه السلام- و عنده رجل من المعتزلة، فسأله عن شي‏ء من السنن فقال: ما من شي‏ء يحتاج إليه ولد آدم إلّا و قد خرجت فيه السنّة من اللّه عزّ و جلّ و من رسوله و لو لا ذلك ما احتجّ اللّه عزّ و جلّ علينا بما احتجّ، فقال له المعتزلي: و بما احتجّ اللّه؟ فقال أبو عبد اللّه- عليه السلام-: بقوله:

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً، حتى تمّم الولاية، فلو لم تكمل سنّة و فريضة ما احتجّ به‏ «2».

أقول: و ممّا يتفرّع على ذلك وجود كلّ حكم عملي في كليّات الكتاب و السنّة و عدم جواز اللحوق و التجدّد و هو ظاهر، و قد مرّ بيان فيه عند قوله: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً، من سورة البقرة «3».
و يشهد بذلك أيضا ما في الكافي و العيون عن الرضا- عليه السلام- في حديث قال- عليه السلام-: و أنزل في آخر «4» حجّة الوداع و هي آخر عمره‏
______________________________
(1). بياض في الأصل المخطوط، راجع لتماميّة المطلب: الكافي 2: 18- 24؛ وسائل الشيعة 1: 13- 29؛ خلاصة عبقات الأنوار 9: 56- 57؛ تقريب المعارف: 184- 220.
(2). لم نجده في تفسير البرهان، لكن روي في بصائر الدرجات: 537، الحديث: 50؛ الفصول المهمة في أصول الأئمة 1: 498، الحديث: 33.
(3). البقرة (2): 213.
(4). في المصدر:- «آخر»

تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن، ج‏3، ص: 205

- صلّى اللّه عليه و آله- الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فأمر «1» الإمامة من تمام الدين، و لم يمض [- صلّى اللّه عليه و آله-] حتى بيّن لأمّته معالم دينهم، و أوضح لهم سبيلهم، و تركهم على قصد الحق‏ «2»، و أقام لهم عليّا- عليه السلام- علما و إماما، و ما ترك [لهم‏] شيئا يحتاج إليه الأمّة إلّا بيّنه، فمن زعم أنّ اللّه عزّ و جلّ لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب اللّه، و من ردّ كتاب اللّه فهو كافر [به‏] «3».

قوله سبحانه: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏

المخمصة: المجاعة، و التجانف: التمايل، و يتحصّل منه تجويز الإقتحام في تخمص‏ «4» الأكل في دفع الجوع، هذا و هو حكم ثانوي، و فيها دلالة على أنّ المغفرة كما تتعلّق بالذنب كذلك تتعلّق بمنشأه، و هو الحكم الذي في مخالفته ذنب و سيجى‏ء إستيفاء الكلام فيه.
*______________________________
(1). في المصدر: «و أمر»
(2). في المصدر: «سبيل الحق»
(3). الكافي 1: 199؛ عيون أخبار الرضا- عليه السلام- 2: 195.
(4). في الاصل: «تمخص» و الصحيح ما اثبتناه في المتن.

نسخه شناسی

درباره مولف

کتاب شناسی

منابع: 

طباطبايى، سيد محمد حسين‏، تفسير البيان فى الموافقة بين الحديث و القرآن‏، تحقيق: اصغر ارادتى‏، بيروت‏، دار التعارف للمطبوعات، 1427 ق‏، چاپ اول‏، ج3، صص 195- 205