آیه 55، سوره مائده : الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4 ، ص 46

التّفسير
ابتدأت هذه الآية بكلمة «إنّما» التي تفيد الحصر، و بذلك حصرت ولاية أمر المسلمين في ثلاث هم: اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الذين آمنوا و أقاموا الصّلاة و أدوا الزّكاة و هم في حالة الركوع في الصّلاة كما تقول الآية: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ‏.

و لا شك أنّ الرّكوع المقصود في هذه الآية هو ركوع الصّلاة و لا يعني الخضوع، لأنّ الشارع المقدس اصطلح في القرآن على كلمة الرّكوع للدلالة على الركن الرّابع للصلاة.
______________________________
(1)- تفسير مجمع البيان: ج 2، ص 210، في ذيل الآية البحوثة.

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 47

و بالإضافة إلى الرّوايات الواردة في شأن نزول الآية، و التي تتحدث عن تصدق علي بن أبي طالب عليه السّلام بخاتمه في الصّلاة- و سنتطرق إليها بالتفصيل- فإنّ جملة يُقِيمُونَ الصَّلاةَ تعتبر دليلا على هذا الأمر، و ليس في القرآن أثر عن ضرورة أداء الزّكاة مقرونة بالخضوع، بل ورد التأكيد على دفع الزّكاة بنيّة خالصة و بدون منة.

كما لا شك في أنّ كلمة «الولي» الواردة في هذه الآية، لا تعني الناصر و المحب، لأنّ الولاية التي هي بمعنى الحب أو النصرة لا تنحصر في من يؤدون الصّلاة و يؤتون الزّكاة و هم راكعون، بل تشمل كل المسلمين الذين يجب أن يتحابوا فيما بينهم و ينصر بعضهم البعض، حتى أولئك الذين لا زكاة عليهم، أو لا يمتلكون- أساسا- شيئا ليؤدوا زكاته، فكيف يدفعون الزّكاة و هم في حالة الركوع؟! هؤلاء كلهم يجب أن يكونوا أحباء فيما بينهم و ينصر بعضهم البعض الآخر.

و من هنا يتّضح لنا أنّ المراد من كلمة «ولي» في هذه الآية، هو ولاية الأمر و الإشراف و حق التصرف و الزعامة المادية و المعنوية، خاصّة و قد جاءت مقترنة مع ولاية النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ولاية اللّه حيث جاءت الولايات الثلاث في جملة واحدة.

و بهذه الصورة فإن الآية تعتبر نصّا قرآنيا يدل على ولاية و إمامة علي بن أبي طالب عليه السّلام للمسلمين.

شهادة الأحاديث و المفسّرين و المؤرخين:
لقد قلنا أنّ الكثير من الكتب الإسلامية و مصادر أهل السنّة تشتمل على العديد من الرّوايات القائلة بنزول هذه الآية في شأن الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام، و قد ذكرت بعض هذه الرّوايات قضية تصدق الإمام علي عليه السّلام بخاتمه على السائل و هو في حالة الركوع، كما لم تذكر روايات أخرى مسألة التصدق‏

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 48

هذه، بل اكتفت بتأييد نزول هذه الآية في حق علي عليه السّلام.

و قد نقل هذه الرّوايات كل من ابن عباس، و عمار بن ياسر، و عبد اللّه بن سلام، و سلمة بن كهيل، و أنس بن مالك، و عتبة بن حكيم، و عبد اللّه بن أبي، و عبد اللّه بن غالب، و جابر بن عبد اللّه الأنصاري، و أبي ذر الغفاري‏ «1».

و بالإضافة إلى الرواة العشرة المذكورين، فقد نقلت كتب الجمهور (أهل السنة) هذه الرواية عن علي بن أبي طالب عليه السّلام نفسه‏ «2».

و الطّريف أنّ كتاب (غاية المرام)، قد نقل 24 حديثا عن طرق أهل السنة و 19 حديثا عن طرق الشّيعة «3».

و قد تجاوز عدد الكتب التي أوردت هذه الرّوايات الثلاثين كتابا، كلها من تأليف علماء أهل السنة، منهم: محب الدين الطبري في ذخائر العقبى ص 88، و العلامة القاضي الشوكاني في تفسير فتح القدير ج 2، ص 50، و من هذه المصادر المعتمدة أيضا: جامع الأصول، ج 9، ص 478، و في أسباب النّزول للواحدي ص 148، و في لباب النقول للسيوطي ص 90، و في تذكرة سبط ابن الجوزي ص 18، و في نور الأبصار للشبلنجي ص 105، و في تفسير الطبري ص 165، و في كتاب الكافي الشافي لابن حجر العسقلاني ص 56، و في مفاتيح الغيب للرازي ج 3، ص 431، و في تفسير الدرّ المنثور ج 2، ص 393، و في كتاب كنز العمال ج 6، ص 391، و في مسند ابن مردويه و مسند ابن الشيخ، بالاضافة إلى صحيح النسائي، و كتاب الجمع بين الصحاح الستة، و كتب عديدة أخرى نقلت حديث الولاية «4».
اذن كيف يمكن- و الحالة هذه- انكار هذه الأحاديث و المصادر التي نقلتها،
______________________________
(1)- راجع كتاب إحقاق الحق، ج 2، ص 309- 410.
(2)- راجع كتاب (المراجعات) للسيد عبد الحسين شرف الدين، ص 155.
(3)- منهاج البراعة، ج 2، ص 350.
(4)- راجع كتاب إحقاق الحق، ج 2، و كتاب (الغدير) ج 2، و كتاب المراجعات للاطلاع على تفاصيل أكثر بهذا الشأن.

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 49

في حين أنّها اكتفت في مجال أسباب نزول آيات أخرى بحديث واحد أو حديثين؟! لعل التطرف الطائفي هو سبب تجاهل كل هذه الأحاديث و الشهادات التي أدلى بها العلماء في مجال سبب نزول هذه الآية.

فلو أمكن التغاضي عن كل الرّوايات التي وردت في تفسير هذه الآية، و هي روايات كثيرة للزم أن لا نعتمد على أي رواية في تفسير النصوص القرآنية، لأنّنا قلما نجد أسبابا لنزول آية أو آيات قرآنية جاءت مدعومة بهذا العدد الكبير من الرّوايات، كما ورد في هذه الآية الكريمة.

إنّ هذه القضية كانت بدرجة من الوضوح بحيث أنّ حسان بن ثابت الشاعر المعروف الذي عاصر و اصطحب النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- جاء بمضمون آية الولاية في قالب شعري من نظمه الذي قاله في حق علي بن أبي طالب عليه السّلام حيث يقول:

فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعا زكاة فدتك النفس يا خير راكع‏
فأنزل فيك اللّه خير ولاية و بيّنها في محكمات الشرائع‏

و قد وردت هذه الأشعار باختلافات طفيفة في كتب كثيرة، منها كتاب تفسير (روح المعاني) للآلوسي، و كتاب (كفاية الطالب) للكنجي الشافعي، و كتب كثيرة أخرى.

الرّد على اعتراضات ثمانية:
لقد أصرت جماعة من المتطرفين من أهل السنّة على تكرار الاعتراضات حول نزول هذه الآية في حق علي بن أبي طالب عليه السّلام، و كذلك على تفسير (الولاية) الواردة في الآية الكريمة بمعنى الإشراف و التصرف و الإمامة، و فيما يلي نعرض أهم هذه الاعتراضات للبحث و النقد، و هي:

1- قالوا: أنّ عبارة «الذين» المقترنة بكلمة «آمنوا» الواردة في الآية: لا يمكن أن تطبق على المفرد، و ذلك ضمن اعتراضهم على الرّوايات التي تقول‏

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 50

بنزول هذه الآية في حق علي بن أبي طالب عليه السّلام و قالوا: أنّ الآية أشارت بصيغة الجمع قائلة الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ‏ فكيف يمكن أن تكون هذه الآية في حق شخص واحد كعلي عليه السّلام؟

الجواب:
لقد زخرت كتب الأدب العربي بجمل تمّ التعبير فيها عن المفرد بصيغة الجمع، و قد اشتمل القرآن الكريم على مثل هذه الجمل، كما في آية المباهلة، حيث وردت كلمة «نساءنا» بصيغة الجمع مع أنّ الرّوايات التي ذكرت سبب نزول هذه الآية أكّدت أن المراد من هذه الكلمة هي فاطمة الزهراء عليها السّلام وحدها، و كذلك في كلمة (أنفسنا) في نفس الآية و هي صيغة جمع، في حين لم يحضر من الرجال في واقعة المباهلة مع النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غير علي عليه السّلام.

و كذلك نقرأ في الآية (172) من سورة آل عمران في واقعة أحد قوله تعالى:
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً ....

و قد بيّنا في الجزء الثّالث من تفسيرنا هذا عند تفسير هذه الآية، أن بعض المفسّرين ذكروا أنّها نزلت بشأن (نعيم بن مسعود) الذي لم يكن إلّا واحدا.

و نقرأ في الآية (52) من هذه السّورة- أيضا- قوله تعالى: ... يَقُولُونَ نَخْشى‏ أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ... في حين أن هذا الجزء من الآية نزل في شخص واحد، كما جاء في سبب النّزول، و هو (عبد اللّه بن أبي) و قد مضى تفسير ذلك.

و كذلك في الآية الاولى من سورة الممتحنة، و الآية الثامنة من سورة (المنافقون) و الآيتين (215 و 274) من سورة البقرة، نقرأ فيها كلها عبارات جاءت بصيغة الجمع، بينما الذي ذكر في أسباب نزول هذه الآيات هو أنّ المراد في كل منها شخص واحد.
و التعبير بصيغة الجمع عن شخص واحد في القرآن الكريم إمّا أن يكون بسبب أهمية موقع هذا الشخص و لتوضيح دوره الفعال، أو لأجل عرض الحكم القرآني‏

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 51

بصيغة كلية عامّة حتى إذا كان مصداقه منحصرا في شخص واحد، و قد ورد في كثير من آي القرآن ضمير الجمع للدلالة على اللّه الواحد الأحد، و ذلك تعظيما له جلّ شأنه.

و بديهي أنّ استخدام صيغة الجمع للدلالة على الواحد يعتبر خلافا للظاهر، و لا يجوز بدون قرينة و لكن مع وجود الرّوايات الكثيرة الواردة في شأن نزول الآية تكون لدينا قرينة واضحة على هذا التّفسير و قد اكتفى في موارد أخرى بأقل من هذه القرينة؟! 2- و قال الفخر الرّازي و متطرفون آخرون: أنّ عليّا عليه السّلام بما عرف عنه من خشوع و خضوع إلى اللّه، بالأخص في حالة الصّلاة (إلى درجة، أنّهم استلوا أثناء صلاته سهما كان مغروزا في رجله، دون أن يحس بالألم كما في (الرواية المعروفة) فكيف يمكن القول بأنّه سمع أثناء صلاته كلام السائل و التفت إليه؟! الجواب:

إنّ الذين جاؤوا بهذا الاعتراض قد غفلوا عن أن سماع صوت السائل و السعي لمساعدته لا يعتبر دليلا على الانصراف و التوجه إلى النفس، بل هو عين التوجه إلى اللّه، و علي عليه السّلام كان أثناء صلاته يتجرد عن ذاته و ينصرف بكله إلى اللّه، و معروف أن التنصل عن خلق اللّه يعتبر تنصلا أيضا عن اللّه، و بعبارة أوضح: أن أداء الزّكاة أثناء الصّلاة يعد عبادة ضمن عبادة أخرى، و ليس معناه القيام مباح ضمن العبادة، بعبارة ثالثة: إنّ ما يلائم روح العبادة هو الانشغال و الانصراف أثناءها إلى الأمور الخاصّة بالحياة و الشخصية، بينما التوجه إلى ما فيه رضى اللّه تعالى يتلائم بصورة تامّة مع روح العبادة و يؤكّدها.
و من الضروري أن تؤكّد هنا أن الذوبان في التوجه إلى اللّه، ليس معناه أن يفقد الإنسان الإحساس بنفسه، و لا أن يكون بدون إرادة، بل الإنسان بإرادته يصرف عن نفسه التفكير في أي شي‏ء لا صلة له باللّه.

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 52

و الطّريف في الأمر أنّ الفخر الرازي قد أوصله تطرّفه إلى الحدّ الذي اعتبر فيه ايماءة الإمام علي عليه السّلام إلى السائل بأصبعه- لكي يأخذ الخاتم- مصداقا للفعل الكثير المنافي للصلاة، في حين أن هناك أفعالا يمكن القيام بها أثناء الصّلاة أكثر بكثير من تلك الإيماءة التي قام بها الإمام عليه السّلام، و في نفس الوقت لا تضر و لا تمس الصّلاة بشي‏ء، و من هذه الأفعال قتل الحشرات الضارة كالحية و العقرب،

و رفع الطفل من محله و وضعه فيه، و إرضاع الطفل الرضيع، و كل هذه الأفعال لا تعتبر من الفعل الكثير في نظر الفقهاء، فكيف يمكن القول بأن تلك الإيماءة تعتبر من الفعل الكثير؟! و قد لا يكون هذا الخطأ غريبا عن عالم استولى عليه التطرف! 3- أمّا الاعتراض الآخر في هذا المجال، فهو أنّ كلمة (ولي) الواردة في الآية تعني الصديق و الناصر و أمثالهما، و ليست بمعنى المتصرف أو المشرف أو ولي الأمر.

الجواب: لقد بيّنا في تفسير هذه الآية أن كلمة (ولي)- الواردة فيها- لا يمكن أن تكون بمعنى الصديق أو الناصر، لأنّ هاتين الصفتين قد ثبتت شموليتهما لكل المسلمين المؤمنين، و ليستا منحصرتين بالمؤمنين المذكورين في الآية و الذين يقيمون الصّلاة و يؤتون الزّكاة أثناء الركوع، و بعبارة أخرى: إنّ الصداقة و النصرة حكمان عامان، بينما الآية- موضوع البحث- تهدف إلى بيان حكم خاص بشخص واحد.

4- و قالوا- أيضا- أنّ عليّا عليه السّلام لم يكن يمتلك شيئا من حطام الدنيا حتى تجب عليه الزّكاة، و لو قلنا بأنّ المراد في الآية هو الصداقة المستحبة فهي لا تسمى زكاة؟! الجواب:
أوّلا: إنّ التّأريخ ليشهد على امتلاك علي عليه السّلام المال الوفير الذي حصل عليه‏

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 53

من كدّ يمينه و عرق جبينه و تصدق به في سبيل اللّه، و قد نقلوا في هذا المجال أنّ عليّا عليه السّلام أعتق و حرر ألف رقبة من الرقيق، كان قد اشتراهم من ماله الخاص الذي كان حصيلة كدّه و معاناته، أضف إلى ذلك فقد كان عليه السّلام يحصل- أيضا- على حصته من غنائم الحرب، و على هذا الأساس فقد كان علي عليه السّلام يمتلك ذخيرة بسيطة من المال، أو من نخلات التمر ممّا يتعين فيهما الزّكاة.

و نحن نعلم- أيضا- ان الفورية الواجبة في أداء الزّكاة هي «فورية عرفية» لا تتنافى مع أداء الصّلاة، أي لا فرق في أداء الزّكاة سواء كان وقت الأداء قبل وقت الصّلاة أو أثناءها.

ثانيا: لقد أطلق القرآن الكريم في كثير من الحالات كلمة الزّكاة على الصدقة المستحبة، و بالأخص في السور المكية، حيث وردت هذه الكلمة للدلالة على الصدقة المستحبة، لأنّ وجوب الزّكاة كان قد شرع بعد هجرة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى المدينة، كما في (الآية 3 من سورة النمل، و الآية 39 من سورة الروم، و الآية 4 من سورة لقمان، و الآية 7 من سورة فصلت و غيرها).

5- و يقولون: إنّهم حتى لو أذعنوا بأن عليا عليه السّلام هو الخليفة بعد النّبي مباشرة، فهذا لا يعني أن يكون علي عليه السّلام وليا في زمن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّ ولايته في زمن النّبي لم تكن ولاية فعلية، بل كانت ولاية بالقوة، و أن ظاهر الآية- موضوع البحث- يدل على الولاية الفعلية.

الجواب:
نلاحظ كثيرا في كلامنا اليومي- و كذلك في النصوص الأدبية- اطلاق اسم معين أو صفة خاصّة على أفراد لا يتمتعون بمزاياها الفعلية، بل يمتلكون المزية أو المزايا بالقوة، و هذا مثل أن يوصي انسان في حياته و يعين لنفسه وصيا و قيما على أطفاله فيكون الشخص الثّاني فور اقرار الوصية من قبل الشخص الأوّل وصيا و قيما، و يدعي بهذين العنوانين حتى لو كان الإنسان الموصي باقيا على قيد

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 54

الحياة.
و نحن نقرأ في الرّوايات التي نقلت في أسانيد الشّيعة و السنّة عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحقّ علي عليه السّلام أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دعا عليا: وصيه و خليفته، في حين أن هذين العنوانين لم يكونا ليتحققا في زمن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و القرآن المجيد- أيضا- يشتمل على مثل هذه التعابير، و من ذلك ما ورد عن (زكريا) الذي توسل إلى اللّه بقوله: .. فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ .. «1» و المعروف أنّ المراد- هنا- من كلمة (ولي) المشرف الذي يتولى شؤون الإشراف بعد الموت كما يعيّن الكثير من الناس في حياتهم من يقوم مقامهم بعد الموت، و يسمّى الشخص المعين منذ لحظة تعيينه بالنائب أو الخليفة مع كون هذه الصفات بالقوة، و ليست بالفعل.

6- و احتجّوا- أيضا- بقولهم: لماذا لم يعتمد علي عليه السّلام على هذا الدليل الواضح للدفاع عن حقّه؟

الجواب:
لقد لاحظنا- من خلال البحث الذي تناول الرّوايات في سبب نزول هذه الآية- أن هذا الحديث قد نقل في كتب عديدة عن الإمام علي عليه السّلام نفسه، و من ذلك ما جاء في مسند «ابن مردويه» و «ابن الشّيخ» و «كنز العمال» و هذا بذاته دليل على استدلال الامام علي عليه السّلام بهذه الآية الشريفة.

و نقل في كتاب (الغدير) القيم عن كتاب (سليم بن قيس الهلالي) حديث مفصل مفاده أنّ عليّا عليه السّلام حين كان منشغلا بحرب صفين، تحدث في ميدان الحرب امام جمع من الناس مستدلا بدلائل عديدة في إثبات حقّه، و كان من جملة ما استدل به الإمام عليه السّلام هذه الآية الكريمة «2».
______________________________
(1)- مريم، 5.
(2)- الغدير، ج 1، ص 196.

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 55

و جاء في كتاب (غاية المرام) نقلا عن أبي ذر رضى اللّه عنه أنّ عليّا عليه السّلام استدل في يوم الشورى بهذه الآية «1».

7- و قد ادعوا- أيضا- أنّ هذا التّفسير الذي أوردناه موضوع البحث لا يتناسب أو لا يتلاءم مع الآيات الواردة قبل و بعد هذه الآية، لأن تلك الآيات جاءت فيها كلمة «الولاية» بمعنى الصداقة.

الجواب:
لقد قلنا مرارا- أنّ الآيات القرآنية بسبب نزولها بصورة تدريجية، و بحسب الوقائع المختلفة تكون دائما ذات صلة بالأحداث التي نزلت الآيات في شأنها، أي أنّ الآيات الواردة في سورة واحدة أو الآيات المتعاقبة، ليست دائما ذات مفهوم مترابط، كما لا تشير دائما إلى معنى واحد، و لذلك يحصل كثيرا أن تروى لآيتين متعاقبتين حادثتان مختلفتان أو سببان للنزول،

و تكون النتيجة أن ينفصل مسير و اتجاه كل آية- لصلتها بحادثة خاصّة- عن مسير الآية التّالية لها لاختلاف الحادثة التي نزلت بشأنها، و بما أنّ آية إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ... بدلالة سبب نزولها جاءت في شأن تصدق الإمام علي عليه السّلام أثناء الركوع، أمّا الآيات السابقة و اللاحقة لها- كما رأينا و سنرى- فقد نزلت في أحداث أخرى، لذلك لا يمكن الاعتماد- هنا كثيرا على مسألة ترابط المفاهيم في الآيات.

و هناك نوع من التناسب بين الآية- موضوع البحث- و الآيات السابقة و اللاحقة لها، لأنّ الآيات الأخرى تضمنت الحديث عن الولاية بمعنى النصرة و الإعانة، بينما الآية- موضوع البحث- تحدثت عن الولاية بمعنى القيادة و التصرف، و بديهي أنّ القائد و الزعيم و المتصرف في أمور جماعة معينة، يكون في نفس الوقت حاميا و ناصرا و صديقا و محبا لجماعته، أي أن مسألة النصرة و الحماية تعتبر من مستلزمات و شؤون الولاية المطلقة.
______________________________
(1)- عن كتاب (منهاج البراعة)، ج 2، ص 363.

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 56

8- و أخيرا قالوا: من أين أتي علي عليه السّلام بذلك الخاتم النفيس؟

و سألوا أيضا: ألا يعتبر ارتداء خاتم بتلك القيمة العالية نوعا من الإسراف؟
ألا تعتبر هذه الأمور دليلا على عدم صحة التّفسير المذكور.

الجواب:
إنّ المبالغات الواردة بشأن قيمة الخاتم الذي تصدق به علي عليه السّلام أثناء الركوع لا أساس لها مطلقا، و لا يقوم عليها أي دليل مقبول- و ما جاء في قيمة ذلك الخاتم من أنّه كان يعادل خراج الشام مبالغة أقرب إلى الأسطورة منه إلى الحقيقة، و قد جاء ذلك في رواية ضعيفة «1» و لعل هذه الرواية وضعت لتشويه حقيقة القضية الأصلية و إظهارها بمظهر الأمر التافه، و قد خلت الرّوايات الصحيحة- التي وردت حول سبب نزول هذه الآية- من أي أثر لمثل هذه الأسطورة.

و على هذا الإساس لم يتمكن أحد من تهميش هذه الواقعة التّأريخية التي أشارت إليها الآية الكريمة- بمثل هذه الحكاية التافهة.
______________________________
(1)- جاءت هذه الرواية مرسلة في تفسير البرهان، ج 1، ص 485.

نسخه شناسی

درباره مولف

کتاب شناسی

منابع: 

مكارم شيرازى، ناصر، الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل‏، قم‏، مدرسه امام على بن ابى طالب‏، 1421 ق‏، چاپ اول‏، ج‏4 ، صص 46 - 56