آیه 55، سوره مائده : التبيان فى تفسير القرآن

التبيان فى تفسير القرآن، ج‏3، ص 558

... قوله تعالى: [سورة المائدة (5): آية 55]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (55)
آية بلا خلاف.
اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية فيه، فروى أبو بكر الرازي في كتاب‏

التبيان فى تفسير القرآن، ج‏3، ص 559

أحكام القرآن على ما حكاه المغربي عنه، و الطبري، و الرماني، و مجاهد، و السدي:
إنها نزلت في علي (ع) حين تصدق بخاتمه و هو راكع، و هو قول أبي جعفر و أبي عبد اللَّه (ع)
و جميع علماء أهل البيت. و قال الحسن و الجبائي:

انها نزلت في جميع المؤمنين. و قال قوم نزلت في عبادة بن الصامت في تبرئه من يهود بني قينقاع، و حلفهم الى رسول اللَّه و المؤمنين. و قال الكلبي نزلت في عبد اللَّه بن سلام و أصحابه لما أسلموا فقطعت اليهود موالاتهم، فنزلت الآية.

و اعلم إن هذه الآية من الأدلة الواضحة على إمامة أمير المؤمنين (ع) بعد النبي بلا فصل.
و وجه الدلالة فيها أنه قد ثبت أن الوليَّ في الآية بمعنى الأولى و الأحق.

و ثبت أيضاً أن المعني بقوله‏ «وَ الَّذِينَ آمَنُوا» أمير المؤمنين (ع) فإذا ثبت هذا الاصلان دل على إمامته، لأن كل من قال: ان معنى الولي في الآية ما ذكرناه قال إنها خاصة فيه. و من قال باختصاصها به (ع) قال المراد بها الامامة.

فان قيل دلوا أولا على ان الولي يستعمل في اللغة بمعنى الأولى و الاحق ثم على ان المراد به في الآية ذلك، ثم دلوا على توجهها الى أمير المؤمنين (ع).

قلنا: الذي يدل على أن الولي يفيد الأولى قول أهل اللغة للسلطان المالك للأمر: فلان ولي الأمر قال الكميت:

و نعم ولي الأمر بعد وليه‏ و منتجع التقوى و نعم المؤدب‏

 و يقولون: فلان ولي عهد المسلمين إذا استخلف للأمر لأنه أولى بمقام من قبله من غيره‏

و قال النبي (ص) (أيما امرأة نكحت بغير اذن وليها فنكاحها باطل)
يريد من هو أولى بالعقد عليها. و قال تعالى: «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ‏

التبيان فى تفسير القرآن، ج‏3، ص 560

وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» «1» يعني من يكون أولى بحيازة ميراثي من بني العم. و قال المبرد: الولي و الأولى و الأحق و المولى بمعنى واحد و الأمر فيما ذكرناه ظاهر، فاما الذي يدل على أن المراد به في الآية ما ذكرناه هو ان اللَّه تعالى نفى ان يكون لنا ولي غير اللَّه و غير رسوله، و الذين آمنوا بلفظة «إنما» و لو كان المراد به الموالاة في الدين لما خص بها المذكورين، لأن الموالاة في الدين عامة في المؤمنين كلهم. قال اللَّه تعالى‏ «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» «2» و إنما قلنا: أن لفظة (إنما) تفيد التخصيص،

لأن القائل، إذا قال إنما لك عندي درهم فهم منه نفي ما زاد عليه، و قام مقام قوله: ليس لك عندي إلا درهم. و لذلك يقولون انما النحاة المدققون البصريون و يريدون نفي التدقيق عن غيرهم. و مثله قولهم: إنما السخاء سخاء حاتم يريدون نفي السخاء عن غيره، قال الأعشى:

و لست بالأكثر منهم حصى‏ و إنما العزة للكاثر «3»

أراد نفي العزة عن من ليس بكاثر. و احتج الأنصار بما

روي عن النبي صلى اللَّه عليه و آله أنه قال‏ (إنما الماء من الماء) في نفي الغسل من غير انزال.
و ادعى المهاجرون نسخ الخبر، فلو لا أن الفريقين فهموا التخصيص لما كان الأمر كذلك و لقالوا (إنما) لا تفيد الاختصاص بوجوب الماء من الماء.

و يدل أيضاً على أن الولاية في الآية مختصة أنه قال: «وليكم» فخاطب به جميع المؤمنين و دخل فيه النبي (ص) و غيره ثم، قال و رسوله، فاخرج‏
______________________________
(1) سورة مريم آية 4- 5.
(2) سورة التوبة آية 72.
(3) اللسان (كثر) و الأكثر هنا و الكاثر بمعنى العدد الكثير و ليس هو للتفضيل.

التبيان فى تفسير القرآن، ج‏3، ص 561

النبي (ص) من جملتهم لكونهم مضافين الى ولايته، فلما قال‏ «وَ الَّذِينَ آمَنُوا» وجب أيضاً أن يكون الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية. و إلا أدى الى أن يكون المضاف هو المضاف اليه و أدى الى أن يكون كل واحد منهم ولي نفسه، و ذلك محال. و إذا ثبت أن المراد بها في الآية ما ذكرناه، فالذي يدل على أن أمير المؤمنين (ع) هو المخصوص بها أشياء:

منها- أن كل من قال: ان معنى الولي في الآية معنى الأحق قال إنه هو المخصوص به. و من خالف في اختصاص الآية يجعل الآية عامة في المؤمنين و ذلك قد أبطلناه.

و منها- ان الطائفتين المختلفتين الشيعة و أصحاب الحديث رووا أن الآية نزلت فيه (عليه السلام) خاصة.
و منها- أن اللَّه تعالى وصف الذين آمنوا بصفات ليست حاصلة إلا فيه، لأنه قال: «وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ» فبين أن المعني بالآية هو الذي أتى الزكاة في حال الركوع. و أجمعت الأمة على أنه لم يؤت الزكاة في حال الركوع غير أمير المؤمنين (ع)،

و ليس لأحد أن يقول: إن قوله‏ «وَ هُمْ راكِعُونَ» ليس هو حالًا ل «يُؤْتُونَ الزَّكاةَ» بل المراد به أن من صفتهم إيتاء الزكاة، لأن ذلك خلاف لأهل العربية، لأن القائل إذا قال لغيره لقيت فلانا، و هو راكب لم يفهم منه الا لقاؤه له في حال الركوب، و لم يفهم منه أن من شأنه الركوب، و إذا قال: رأيته و هو جالس أو جاءني و هو ماش لم يفهم من ذلك كله إلا موافقة رؤيته في حال الجلوس أو مجيئه ماشياً. و إذا ثبت ذلك وجب أن يكون حكم الآية مثل ذلك.

فان قيل: ما أنكرتم أن يكون الركوع المذكور في الآية المراد به‏

التبيان فى تفسير القرآن، ج‏3، ص 562

الخضوع كأنه قال يؤتون الزكاة خاضعين متواضعين كما قال الشاعر:

و لا تهين الفقير علك أن‏ تركع يوماً و الدهر قد رفعه‏ «1»

و المراد علك أن تخضع، قلنا الركوع هو التطأطأ المخصوص، و إنما يقال للخضوع ركوعاً تشبيهاً و مجازاً، لأن فيه ضرباً من الانخفاض، يدل على ما قلناه نص أهل اللغة عليه، قال صاحب العين: كل شي‏ء ينكب لوجهه فتمس ركبتيه الأرض أو لا تمس بعد أن يطأطئ رأسه فهو راكع قال لبيد:

أخبر أخبار القرون التي مضت‏ أدب كأني كلما قمت راكع‏ «2»

و قال ابن دريد: الراكع الذي يكبو على وجهه، و منه الركوع في الصلاة قال الشاعر:

و أفلت حاجب فوق العوالي‏ على شقاء تركع في الظراب‏ «3»

أي تكبوا على وجهها. و إذا كانت الحقيقة ما قلناه، لم يجز حمل الآية على المجاز.

فان قيل قوله‏ «الَّذِينَ آمَنُوا» لفظ جمع كيف تحملون ذلك على الواحد؟

قيل: قد يعبر عن الواحد بلفظ الجمع إذا كان معظماً عالي الذكر قال تعالى‏ «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» «4» و قال: «رَبِّ ارْجِعُونِ»
______________________________
(1) قائله الأضبط بن قريع الاسدي. و هو في اللسان (ركع). و قد مر في موارد كثيرة من هذا الكتاب.
(2) اللسان (ركع) و قد مر في 1/ 195.
(3) اللسان (ركع) و قد مر في 1/ 195.
(4) سورة الحجر آية 9.

التبيان فى تفسير القرآن، ج‏3، ص 563

و قال‏ «وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها» «1» و نظائر ذلك كثيرة. و قال:
«الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» «2» و لا خلاف في أن المراد به واحد، و هو نعيم بن مسعود الاشجعي. و قال: «أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ» «3» و المراد رسول اللَّه (ص) و قال‏ «الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا» «4» نزلت في عبد اللَّه بن أبي ابن سلول.

فإذا ثبت استعمال ذلك كان قوله‏ «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ» محمولا على الواحد الذي قدمناه.
فان قيل: لو كانت الآية تفيد الامامة لوجب أن يكون ذلك إماماً في الحال و لجاز له أن يأمر و ينهى و يقوم بما يقوم به الأئمة.

قلنا: من أصحابنا من قال: إنه كان إماماً في الحال و لكن لم يأمر لوجود النبيَّ (ص) و كان وجوده مانعاً من تصرفه، فلما مضى النبي (ص) قام بما كان له. و منه من قال- و هو الذي نعتمده- أن الآية دلت على فرض طاعته و استحقاقه للامامة. و هذا كان حاصلا له. و أما التصرف فموقوف على ما بعد الوفاة كما يثبت استحقاق الأمر لولي العهد في حياة الامام الذي قبله و إن لم يجز له التصرف في حياته. و كذلك يثبت استحقاق الوصية للوصي و ان منع من التصرف وجود الموصي. و كذلك القول في الأئمة و قد استوفينا الكلام على الآية في كتب الامامة بما لا يحتمل بسطه ها هنا.

فان قيل: أ ليس قد روي أنها نزلت في عبادة بن الصامت أو عبد اللَّه بن سلام و أصحابه؟ فما أنكرتم أن يكون المراد بالذين آمنوا هم دون من‏
______________________________
(1) سورة أ لم السجدة آية 13.
(2) سورة آل عمران آية 172.
(3) سورة البقرة آية 199.
(4) سورة آل عمران آية 168.

التبيان فى تفسير القرآن، ج‏3، ص 564

ذهبتم اليه؟
قلنا: أول ما نقوله: إنا دللنا على أن هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين (ع) بنقل الطائفتين، و لما اعتبرناه من اعتبار الصفة المذكورة في الآية و أنها ليست حاصلة في غيره بطل ما يروى في خلاف ذلك، على أن الذي روي في الخبر من نزولها في عبادة بن الصامت لا ينافي ما قلناه،

لأن عبادة لما تبرأ من حلف اليهود أعطي ولاية من تضمنته الآية، فأما ما روي من خبر عبد اللَّه بن سلام فبخلاف ما ذهبوا اليه، لأنه روي أن عبد اللَّه بن سلام لما اسلم قطعت اليهود حلفه و تبرؤوا منه فاشتد ذلك عليه، و على أصحابه فأنزل اللَّه تعالى الآية تسلية لعبد اللَّه ابن سلام و أصحابه و أنه قد عوضهم من محالفة اليهود، ولاية اللَّه و ولاية رسوله و ولاية الذين آمنوا.

و الذي يكشف عما قلناه أنه‏ قد روي‏ أنها لما نزلت خرج النبي (ص) من البيت، فقال لبعض أصحابه (هل أعطى أحد سائلًا شيئاً فقالوا: نعم يا رسول اللَّه قد أعطى علي بن أبي طالب السائل خاتمه، و هو راكع. فقال النبي (ص) اللَّه أكبر قد أنزل اللَّه فيه قرآنا) ثم تلا الآية الى آخرها.

و في ذلك بطلان ما قالوه. و قد استوفينا ما يتعلق بالشبهات المذكورة في الآية في كتاب الاستيفاء و حللناها بغاية ما يمكن، فمن أراده وقف عليه من هناك. فأما الولي بمعنى الناصر فلسنا ندفعه في اللغة لكن لا يجوز أن يكون مراداً في الآية لما بيناه من نفي الاختصاص.

و إقامة الصلاة اتهامها بجميع فروضها من قولهم فلان قائم بعمله الذي وليه أي يوفي العمل جميع حقوقه، و منه قوام الآمر. و في الآية دلالة على أن العمل القليل لا يفسد الصلاة.

نسخه شناسی

درباره مولف

کتاب شناسی
 

منابع: 

طوسى، محمد بن حسن‏، التبيان فى تفسير القرآن‏، تحقيق: احمد قصيرعاملى‏، بيروت‏، دار احياء التراث العربى‏، چاپ اول‏، ج‏3، صص 558 - 564