آیه 55، سوره مائده : المنتخب من تفسير التبيان

المنتخب من تفسير التبيان، ج‏1، ص 234

فصل: قوله‏ «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ» الاية: 55.

اختلفوا في من نزلت هذه الاية فيه، فروى أبو بكر الرازي في كتاب أحكام القرآن على ما حكاه المغربي عنه و الطبري و الرماني و مجاهد و السدي: انها نزلت في علي عليه السّلام حين تصدق بخاتمه و هو راكع. و هو قول أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السلام و جميع علماء أهل البيت.

و قال الحسن و الجبائي: انها نزلت في جميع المؤمنين. و قال قوم: نزلت في عبادة بن الصامت في تبريه من يهود بني قينقاع و حلفهم الى رسول اللّه و المؤمنين.

و قال الكلبي: نزلت في عبد اللّه بن سلام و أصحابه لما أسلموا، فقطعت اليهود و موالاتهم فنزلت الاية.
و اعلم أن هذه الاية من الادلة الواضحة على امامة أمير المؤمنين عليه السّلام بعد النبي بلا فصل، و وجه الدلالة فيها: انه قد ثبت أن الولي في الاية بمعنى الاولى و الاحق.

و ثبت أيضا أن المعنى بقوله «وَ الَّذِينَ آمَنُوا» أمير المؤمنين عليه السّلام. فإذا ثبت هذان الاصلان دل على إمامته، لان كل من قال: ان معنى الولي في الاية ما ذكرناه قال: انها خاصة فيه، و من قال: باختصاصها به عليه السّلام، قال: المراد بها الامامة.

فان قيل: دلوا على أن الولي يستعمل في اللغة بمعنى الاولى و الاحق، ثم على أن المراد به في الاية ذلك، ثم دلوا على توجهها الى أمير المؤمنين عليه السّلام.

المنتخب من تفسير التبيان، ج‏1، ص 235

قلنا: الذي يدل على أن الولي يفيد الاولى قول أهل اللغة للسلطان المالك للأمر: فلان ولي الامر. قال الكميت:

و نعم ولي الامر بعد وليه‏ و منتجع التقوى و نعم المؤدب‏

قال: و يقولون فلان ولي عهد المسلمين، إذا استخلف للأمر لأنه أولى بمقام من قبله من غيره. و قال النبي عليه السّلام: أيما امرأة نكحت بغير اذن وليها فنكاحها باطل يريد من هو أولى بالعقد عليها. و قال تعالى‏ «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» «1» يعني: من يكون أولى بحيازة ميراثي من بني العم.

و قال المبرد: الولي و الاولى و الاحق و المولى بمعنى واحد. و الامر فيما ذكرناه ظاهر.
فأما الذي يدل على أن المراد به في الاية ما ذكرناه، هو أن اللّه تعالى نفى أن يكون لنا ولي غير اللّه و غير رسوله و غير الذين آمنوا بلفظة «انما» و لو كان المراد به الموالاة في الدين لما خص بها المذكورين، لان الموالاة في الدين عامة في المؤمنين كلهم، قال اللّه تعالى‏ «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» «2».

و انما قلنا ان لفظة «انما» تفيد التخصيص، لان القائل إذا قال: انما لك عندي درهم، فهم منه نفي ما زاد عليه، و قام مقام قوله «ليس لك عندي الا درهم» و كذلك يقولون: انما النحاة المدققون البصريون، و يريدون نفي التدقيق عن غيرهم. و مثله قولهم انما السخاء سخاء حاتم، و يريدون نفي السخاء عن غيره، قال الأعشى:

و لست بالأكثر منهم حصى‏ و انما العزة للكاثر «3»

و أراد نفي العزة عن من ليس بكاثر. و احتجت الأنصار بما روي عن النبي‏

______________________________
(1). سورة مريم: 4- 5.
(2). سورة التوبة: 72.
(3). اللسان «كثر».

المنتخب من تفسير التبيان، ج‏1، ص 236

عليه السلام أنه قال: انما الماء من الماء. في نفي الغسل من غير الانزال. و ادعى المهاجرون نسخ الخبر، فلولا أن الفريقين فهموا التخصيص لما كان الامر كذلك و لقالوا «انما» لا تفيد الاختصاص بوجوب الماء من الماء.

و يدل أيضا على أن الولاية في الاية مختصة أنه قال «وليكم» فخاطب به جميع المؤمنين، و دخل فيه النبي عليه السّلام و غيره. ثم قال «و رسوله» فأخرج النبي عليه السّلام من جملتهم، لكونهم مضافين الى ولايته، فلما قال «و الذين آمنوا» وجب أيضا أن يكون الذي خوطب بالاية غير الذي جعلت له الولاية، و الا أدى الى أن يكون المضاف هو المضاف اليه، و أدى الى أن يكون كل واحد منهم ولي نفسه، و ذلك محال.

و إذا ثبت أن المراد بها في الاية ما ذكرناه، فالذي يدل على أن أمير المؤمنين هو المخصوص بها أشياء:
منها: أن كل من قال: ان معنى الولي في الاية معنى الاحق قال: انه هو المخصوص به، و من خالف في اختصاص الاية يجعل الاية عامة في المؤمنين، و ذلك قد أبطلناه.

و منها: أن الطائفتين المختلفتين الشيعة و أصحاب الحديث رووا أن الاية نزلت فيه عليه السّلام خاصة.
و منها: أن اللّه تعالى وصف الذين آمنوا بصفات ليست حاصلة الا فيه، لأنه قال‏ «وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ» فبين أن المعني بالاية هو الذي آتى الزكاة في حال الركوع، و أجمعت الامة على أنه لم يؤت الزكاة في حال الركوع غير أمير المؤمنين عليه السّلام.

و ليس لاحد أن يقول: ان قوله «و هم راكعون» ليس هو حالا لإيتاء الزكاة، بل المراد به أن من صفتهم إيتاء الزكاة، لان ذلك خلاف لأهل العربية، لان القائل إذا قال لغيره: لقيت فلانا و هو راكب، لم يفهم منه الا لقاؤه‏

المنتخب من تفسير التبيان، ج‏1، ص 237

له في حال الركوب، و لم يفهم منه أن من شأنه الركوب و إذا قال: رأيته و هو جالس، أو جاءني و هو ماش، لم يفهم من ذلك كله الا موافقة رؤيته في حال الجلوس، أو مجيئه ماشيا. و إذا ثبت ذلك وجب أن يكون حكم الاية مثل ذلك.

فان قيل: ما أنكرتم أن يكون الركوع المذكور في الاية المراد به الخضوع، كأنه قال: يؤتون الزكاة خاضعين متواضعين، كما قال الشاعر:

لا تهين الكريم علك أن‏ تركع يوما و الدهر قد رفعه‏ «1»

 و المراد علك أن تخضع.

قلنا: الركوع هو التطأطؤ المخصوص، و انما يقال للخضوع ركوع تشبيها و مجازا، لان فيه ضربا من الانخفاض، يدل على ما قلناه نص أهل اللغة عليه. قال صاحب العين: كل شي‏ء ينكب لوجهه فتمس ركبتيه الأرض أو لا تمس بعد أن يطأطئ رأسه فهو راكع، قال لبيد:

أخبر أخبار القرون التي مضت‏ أدب كأني كلما قمت راكع‏ «2»

و قال ابن دريد: الراكع الذي يكبوا على وجهه، و منه الركوع في الصلاة قال الشاعر:

و أفلت حاجب فوق العوالي‏ على شقاء تركع في الظراب‏

 أي: تكبوا على وجهها. و إذا كانت الحقيقة ما قلناه لم يجز حمل الاية على المجاز.

فان قيل: قوله «الذين آمنوا» لفظ جمع كيف تحملونه على الواحد؟
قيل: قد يعبر عن الواحد بلفظ الجمع إذا كان معظما عالي الذكر، قال اللّه‏
______________________________
(1). اللسان «ركع».
(2). اللسان «ركع».

المنتخب من تفسير التبيان، ج‏1، ص 238

تعالى‏ «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» «1» و قال «رب ارجعون» «2» و قال‏ «وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها» «3» و نظائر ذلك كثيرة. و قال‏ «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» «4» و لا خلاف أن المراد به واحد، و هو نعيم بن مسعود الاشجعي، و قال‏ «أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ» و المراد به رسول اللّه. و قال تعالى‏ «الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا» «5» نزلت في عبد اللّه بن أبي سلول.

فإذا ثبت استعمال ذلك، كان قوله‏ «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ» محمولا على الواحد الذي قدمناه.
فان قيل: لو كانت الاية تفيد الامامة، لوجب أن يكون ذلك اماما في الحال و لجاز أن يأمر و ينهى و يقوم بما يقوم به الائمة.

قلنا: من أصحابنا من قال: انه كان اماما في الحال، لكن لم يأمر لوجود النبي عليه السّلام، فكان وجوده مانعا من تصرفه، فلما مضى النبي عليه السّلام قام بما كان له.

و منهم من قال و هو الذي نعتمده: ان الاية دلت على فرض طاعته و استحقاقه للامامة، و هذا كان حاصلا له. فأما التصرف فموقوف على ما بعد الوفاة، كما يثبت استحقاق الامر لولي العهد في حياة الامام الذي قبله، و ان لم يجز له التصرف في حياته. و كذلك يثبت استحقاق الوصية للوصي، و ان منع من التصرف وجود الموصي، فكذلك القول في الائمة. و قد استوفينا الكلام على الاية في كتب الامامة لا يحتمل بسطه هاهنا.
______________________________
(1). سورة الحجر: 9.
(2). سورة المؤمنون: 99.
(3). سورة السجدة: 13.
(4). سورة آل عمران: 172.
(5). سورة آل عمران: 168.

المنتخب من تفسير التبيان، ج‏1، ص 239

فان قيل: أليس قد روي أنها نزلت في عبادة بن الصامت أو عبد اللّه بن سلام و أصحابه؟ فما أنكرتم أن يكون المراد ب «الذين آمنوا» هم دون من ذهبتم اليه.

قلنا: أول ما نقوله انا إذا دللنا على أن هذه الاية نزلت في أمير المؤمنين عليه السّلام بنقل الطائفتين، و بما اعتبرناه من اعتبار الصفة المذكورة في الاية و أنها ليست حاصلة في غيره، بطل ما روي في خلاف ذلك، على أن الذي روي في الخبر من نزولها في عبادة بن الصامت لا ينافي ما قلناه، لان عبادة لما تبرأ من حلف اليهود بخلاف ما عمل ابن أبي سلول من تمسكه بحلفهم أنزل اللّه تعالى الاية و عوضه من حلف اليهود ولاية من تضمنته الاية.

فأما ما روي من خبر عبد اللّه بن سلام، فبخلاف ما ذهبوا اليه، لأنه روي أن عبد اللّه بن سلام لما أسلم قطعت اليهود حلفه و تبرؤا منه، فاشتد ذلك عليه و على أصحابه، فأنزل اللّه تعالى الاية تسلية لعبد اللّه و أصحابه، و أنه قد عوضهم من مخالفة اليهود ولاية اللّه و ولاية رسوله و ولاية الذين آمنوا.

و الذي يكشف عما قلناه أنه قد روي أنها لما نزلت خرج النبي عليه السّلام من البيت فقال لبعض أصحابه: هل أعطى أحد سائلا شيئا؟ فقالوا: نعم يا رسول اللّه قد أعطى علي بن أبي طالب السائل خاتمه و هو راكع، فقال النبي عليه السّلام: اللّه أكبر قد أنزل اللّه فيه قرآنا، ثم تلا الاية الى آخرها، و في ذلك بطلان ما قالوه.
و قد استوفينا ما يتعلق بالشبهات المذكورة في الاية في كتاب الاستيفاء، و حللناها بغاية ما يمكن، فمن أراده وقف عليه من هناك.

و أما الولي بمعنى الناصر، فلسنا ندفعه في اللغة، لكن لا يجوز أن يكون مرادا في الاية، لما بيناه من نفي الاختصاص.

و اقامة الصلاة إتمامها بجميع فروضها من قولهم فلان قائم بعمله الذي وليه أي: يوفي العمل جميع حقوقه، و منه قوام الامر. و في الاية دلالة على أن العمل‏

المنتخب من تفسير التبيان، ج‏1، ص 240

القليل لا يفسد الصلاة.

نسخه شناسی 

درباره مولف

کتاب شناسی
 

منابع: 

ابن ادريس حلى، ابوعبدالله محمد بن احمد، المنتخب من تفسير التبيان‏، تحقيق: سيد مهدى رجائى‏، قم‏، كتابخانه آيت الله مرعشى نجفى‏، 1409 ق‏، چاپ اول‏، ج‏1، صص 234 - 240