آیه 67، سوره مائده : الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 82

الآية [سورة المائدة (5): آية 67]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67)

التّفسير
اختيار الخليفة مرحلة انتهاء الرسالة:
إنّ لهذه الآية نفسا خاصا يميزها عمّا قبلها و عمّا بعدها من آيات، إنّها تتوجه بالخطاب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وحده و تبيّن له واجبة، فهي تبدأ بمخاطبة الرّسول:
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ‏ و تأمره بكل جلاء و وضوح أن‏ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ‏ «1».
ثمّ لكي يكون التوكيد أشد و أقوى- تحذره و تقول: وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ‏.

ثمّ تطمئن الآية الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- و كأن أمرا يقلقه- و تطلب منه أن يهدئ من روعه و أن لا يخشى الناس: فيقول له: وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏.
و في ختام الآية إنذار و تهديد بمعاقبة الذين ينكرون هذه الرسالة
______________________________
(1)- عبارة «بلّغ» كما يقول الراغب في «المفردات» أكثر توكيدا من «أبلغ».

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 83

الخاصّة و يكفرون بها عنادا، فتقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ‏.

أسلوب هذه الآية، و لحنها الخاص، و تكرر توكيداتها، و كذلك ابتداؤها بمخاطبة الرّسول‏ يا أَيُّهَا الرَّسُولُ‏ التي لم ترد في القرآن الكريم سوى مرّتين، و تهديده بأنّ عدم تبليغ هذه الرسالة الخاصّة إنّما هو تقصير- و هذا لم يرد إلّا في هذه الآية وحدها- كل ذلك يدل على أنّ الكلام يدور حول أمر مهم جدا بحيث أن عدم تبليغه يعتبر عدم تبليغ للرسالة كلها.

لقد كان لهذا الأمر معارضون أشداء إلى درجة أنّ الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان قلقا لخشيته من أنّ تلك المعارضة قد تثير بعض المشاكل بوجه الإسلام و المسلمين، و لهذا يطمئنه اللّه تعالى من هذه الناحية.

هنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي- مع الأخذ بنظر الإعتبار تأريخ نزول هذه الآية- و هو قطعا في أواخر حياة الرّسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ترى ما هذا الموضوع المهم الذي يأمر اللّه رسوله- مؤكّدا- أن يبلّغه للناس؟

هل هو ممّا يخص التوحيد و الشرك و تحطيم الأصنام، و هو ما تمّ حله للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و للمسلمين قبل ذلك بسنوات؟

أم هو ممّا يتعلق بالأحكام و القوانين الإسلامية، مع أنّ أهمها كان قد سبق نزوله حتى ذلك الوقت؟
أم هو الوقوف بوجه أهل الكتاب من اليهود و النصارى، مع أنّنا نعرف أنّ هذا لم يعد مشكلة بعد الانتهاء من حوادث بني النضير و بني قريظة و بني قينقاع و خيبر و فدك و نجران؟

أم كان أمرا من الأمور التي لها صلة بشأن المنافقين، مع أنّ هؤلاء قد طردوا من المجتمع الإسلامي بعد فتح مكّة، و امتداد نفوذ المسلمين و سيطرتهم على أرجاء الجزيرة العربية كافة، فتحطمت قوتهم، و لم يبق عندهم إلّا ما كانوا يخفونه مقهورين؟

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 84

فما هذه المسألة المهمّة- يا ترى- التي برزت في الشهور الأخيرة من حياة رسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحيث تنزل هذه الآية و فيها كل ذلك التوكيد؟
ليس ثمّة شك أنّ قلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يكن لخوف على شخصه و حياته، و إنّما كان لما يحتمله من مخالفات المنافقين و قيامهم بوضع العراقيل في طريق المسلمين.

هل هناك مسألة تستطيع أن تحمل كل هذه الصفات غير مسألة استخلاف النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تعيين مصير مستقبل الإسلام؟! سوف نرجع إلى مختلف الرّوايات الواردة في الكثير من كتب السنة و الشيعة بشأن هذه الآية، لكي نتبيّن إن كانت تنفعنا في إثبات الاحتمال الذي أوردناه آنفا، ثمّ نتناول بالبحث الاعتراضات و الانتقادات التي أوردها بعض المفسّرين من السنة حول هذا التّفسير.

نزول آية التبليغ:
على الرغم من أنّ الأحكام المتسرعة، و التعصبات المذهبية قد حالت- مع الأسف- دون وضع الحقائق الخاصّة بهذه الآية في متناول أيدي جميع المسلمين بغير تغطية أو تمويه، إلّا أن هناك مختلف الكتب التي كتبها علماء من أهل السنة في التّفسير و الحديث و التّأريخ، أوردوا فيها روايات كثيرة تقول جميعها بصراحة.

إنّ الآية المذكورة قد نزلت في علي عليه السّلام.
هذا الرّوايات ذكرها الكثيرون من الصحابة، منهم «زيد بن أرقم» و «أبو سعيد الخدري» و «ابن عباس» و «جابر بن عبد اللّه الأنصاري» و «أبو هريرة» و «البراء بن عازب» و «حذيفة» و «عامر بن ليلى بن ضمرة» و «ابن مسعود» و قالوا:
إنّها نزلت في علي عليه السّلام و بشأن يوم الغدير.
بعض هذه الأحاديث نقل بطريق واحد مثل رواية زيد بن أرقم.

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 85

و بعضها نقل بأحد عشر طريقا، مثل رواية أبي سعيد الخدري و رواية ابن عباس.
و بعضها نقل بثلاثة طرق، مثل رواية البراء بن عازب، أمّا العلماء الذين أوردوا هذه الرّوايات في كتبهم فهم كثيرون، من بينهم:

الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في كتابه «ما نزل من القرآن في علي» (نقلا عن «الخصائص» الصفحة 29).
و أبو الحسن الواحدي النيسابوري في «أسباب النّزول» الصفحة 150.
و الحافظ أبو سعيد السجستاني في كتابه «الولاية» (نقلا عن كتاب «الطرائف»).
و ابن عساكر الشافعي (انظر «الدر المنثور» المجلد 3 من الصفحة 298).
و الفخر الرازي في «تفسير الكبير» المجلد 3 الصفحة 636.
و أبو إسحاق الحمويني في «فرائد السمطين».
و ابن الصباغ المالكي في «الفصول المهمّة» الصفحة 27.
و جلال الدين السيوطي في «الدر المنثور» المجلد 3 الصفحة 298.
و القاضي الشوكاني في «فتح القدير» المجلد 3 الصفحة 57.
و شهاب الدين الآلوسي الشافعي في «روح المعاني» المجلد 6 الصفحة 172.
و الشيخ سليمان القندوزي الحنفي في «ينابيع المودة» الصفحة 120.
و بدر الدين الحنفي في «عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري» المجلد 8، الصفحة 584.
و الشيخ محمّد عبده المصري في تفسير «المنار» المجلد 6 الصفحة 463.
و الحافظ ابن مردويه (المتوفى سنة 416) (عن السيوطي في «الدر المنثور»).
و جماعة كثيرون غيرهم أشاروا إلى سبب نزول هذه الآية.

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 86

و نحن لا نعني- طبعا- أنّ العلماء و المفسّرين الذين مرّ ذكرهم قد قبلوا نزول الآية في علي عليه السّلام، بل نقصد أنّهم ذكروا- فقط- الرّوايات الخاصّة بذلك في كتبهم، و لكنّهم بعد أن نقلوا تلك الرّوايات المعروفة، امتنعوا عن قبولها، إمّا خوفا من الظروف التي كانت تحيط بهم، و إمّا لأنّ التسرع في الحكم وقف حائلا دون إصدار حكم سليم في أمثال هذه الأمور، بل لقد سعوا- قدر إمكانهم- أن يعتموا الرؤية الصحيحة لها و يظهروها بشكل هامشي.

فهذا الرازي- مثلا- و هو المعروف بتعصبه المذهبي في مسائل خاصّة، أدرج سبب نزول هذه الآية كاحتمال عاشر بعد إيراده تسعة احتمالات أخرى كلها واهية و ضعيفة و لا قيمة لها.

و ليس هذا بمستغرب من الرازي، فهذا شأنه في كل المواضيع. لكنّنا نتعجب من كتّاب مثقفين أمثال سيد قطب، في تفسيره «في ظلال القرآن» و محمّد رشيد رضا في تفسيره «المنار»، الذين أهملوا- كليا- الإشارة إلى سبب نزول هذه الآية المذكور في أمهات المصادر الإسلامية، أو ضعّفوا أهميته بحيث أصبح بتصويرهم لا يستلفت نظرا.

هل كانت الظروف المحيطة بهؤلاء لا تسمح لهم بذكر الحقيقة؟ أم أنّ حجب التعصب أكثف من أن تخترقها أشعة التنوير؟! لا ندري!! و هناك آخرون اعتبروا نزول الآية في علي عليه السّلام أمرا مسلّما به، و لكنّهم ترددوا في الإقرار بأنّها تدل على الولاية و الخلافة. و سنردّ- إن شاء اللّه- على إشكالات هؤلاء.
على كل حال، إنّ الرّوايات المنقولة في كتب أهل السنّة المعروفة- دع عنك كتب الشيعة- في هذا الموضوع من الكثرة بحيث لا يمكن إنكارها أو تجاوزها بسهولة.

لسنا ندري لماذا يكتفى في أسباب نزول سائر الآيات بحديث واحد أو

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 87

حديثين إثنين فقط، و لا تكون كل هذه الرّوايات الواردة بشأن نزول هذه الآية كافية؟! أفي هذه الآية من الخصوصية ما ليس في الآيات الأخرى؟

ترى هل هناك دليل منطقي يسوّغ كل هذا التصلّب؟
ثمّة موضوع آخر لا بدّ من الإشارة إليه، هو أنّ الرّوايات التي ذكرناها فيما سبق تتعلق كلها بنزول هذه الآية في علي عليه السّلام، أي الرّوايات الخاصّة بسبب نزول هذه الآية فقط، أم الرّوايات الواردة عن حادثة غدير خم و خطبة الرّسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إعلانه وصاية علي عليه السّلام و ولايته، فإنّها أكثر بكثير من تلك، حتى أنّ العلّامة الأميني رحمه اللّه ينقل في كتابه «الغدير» حديث الغدير عن 110 من صحابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع اسنادها،

و عن 84 من التابعين، و عن 360 من العلماء و الأدباء المسلمين المعروفين بما لا يدع مجالا للشك في أنّ حديث الغدير واحد من أوثق الأحاديث المتواترة، و لئن شك أحد في تواتر هذه الرّوايات فإنّه لا يمكنه أن يقبل أي حديث متواتر آخر.

و لمّا كانت دراسة كل هذه الرّوايات الخاصّة بشأن نزول هذه الآية، و كذلك البحث في الرّوايات الخاصّة بحادث الغدير، يتطلب تأليف كتاب ضخم يخرجنا عن طريقتنا في التّفسير، فإنّنا نكتفي بهذا القدر، و نحيل طالب الاستزادة حول هذا الموضوع الى الكتب التّالية: «الدر المنثور» للسيوطي، و «الغدير» للعلّامة الأميني، و «إحقاق الحقّ» للقاضي نور الدين التستري، و «المراجعات» للسيد عبد الحسين شرف الدين، و «دلائل الصدق» للشيخ محمّد حسن المظفر.

حادثة الغدير بايجاز:
على الرغم من أنّ الرّوايات التي تذكر هذه الحادثة كثيرة و هي تصف واقعة

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 88

بعينها، فإنّ الرّوايات التي عبّرت عنها متنوعة، فبعض هذه الرّوايات مسهب مطوّل، و بعضها الآخر موجز مكثف، و بعضها يتناول جانبا معينا من الحادثة، و من مجموع تلك الرّوايات و من التّأريخ الإسلامي و من ملاحظة القرائن و الظروف المحيطة بوقوعها و بمكانها يتبيّن ما يلي:

أنّه في السنة الأخيرة من حياة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أدّى المسلمون مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حجّة الوداع في عظمة و جلال، و كان لهذه الحجة أثر كبير في النفوس، و بعد انتهائها أحاطت بالقلوب هالة من السموّ الروحي، و تشرّبت في الأعماق لذّة هذه العبادة الكبرى.

و كانت الجموع الغفيرة «1» من المسلمين المشاركين في تلك الحجّة يكادون يطيرون فرحا لهذه السعادة الكبرى التي شرفهم اللّه بها.
لم يكن أهل المدينة وحدهم قد رافقوا النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في هذه الحجة، بل التحق بركبه مسلمون توافدوا من سائر أنحاء الجزيرة العربية لينالوا شرف الصحبة في هذه الحجّة.

كانت الشمس ترسل أشعتها اللافحة المحرقة على الوديان و السهول لكن لذّة هذا السفر الروحي يسّرت كل شي‏ء. اقترب وقت الظهيرة، و اقترب الركب الكبير من أرض الجحفة، و ظهرت من بعيد أرض «غدير خم» القاحلة الجافة المحرقة.

كانت المنطقة، في الحقيقة تقع على مفترق طرق أربع حيث كان على الحجيج أن يتفرقوا إلى الوجهة التي يقصدونها فطريق يتجه إلى المدينة نحو الشمال، و آخر يوصل إلى العراق شرقا، و طريق الغرب يتجه إلى مصر، و طريق الجنوب يصل إلى اليمن. هاهنا كان لا بدّ أن يتحقق أهم فصل من فصول هذه الرحلة و آخر ذكرياتها. و كان على المسلمين أن يتلقوا آخر تكليف لهم، أو المرحلة النهائية من المهمات الناجحة التي اضطلع بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قبل أن‏
______________________________
(1)- قيل أنّ عددهم 90 ألفا، و قيل 120 ألفا، و قيل 124 ألفا.

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 89

يتفرقوا إلى حال سبيلهم.
كان يوم الخميس من السنة العاشرة للهجرة، و قد مضت ثمانية أيّام على عيد الأضحى، و إذا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصدّر أمره للحجيج بالتوقف، فراح المسلمون يتنادون الذين في مقدمة الركب أن يعودوا، و انتظروا حتى يلتحق بهم من كان في المؤخرة أيضا. كان الشمس قد تخطت نقطة الزوال، و صعد مؤذن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينادي في الناس لصلاة الظهر، و أخذ الناس يستعدون- مسرعين- لأداء الصّلاة.

كانت الرياح لافحة محرقة، حتى اضطر بعضهم إلى أن يضع قسما من عباءته تحت قدميه و قسما منها فوق رأسه كي يتقي حرارة الحصى و أشعة الشمس.

ما كان في تلك الصحراء ما يستظل به، و لا ما تستريح إليه العين من خضرة الأعشاب، اللّهم إلّا بضع شجيرات عجاف عارية تصارع حرارة الجو صراعا مريرا.

كان جمع قد لجأ إلى هذه الشجيرات و نشر رداءه عليها ليستظل به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إلّا أنّ الرياح الساخنة كانت تعصف بتلك المظلة فتنشر تحتها حرارة الشمس الحارقة.

انتهت صلاة الظهر. و هرع الحجيج يريدون نصب خيامهم الصغيرة التي كانوا يحملونها معهم يلوذون بها من حر الهاجرة. إلّا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخبرهم أنّ عليهم أن يستعدوا لسماع رسالة إلهية، جديدة في خطبته، و كان الذين يقفون على مسافة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يستطيعون رؤيته، لذلك‏

صنعوا له منبرا من أحداج الإبل ارتقاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال:
«الحمد للّه و نستعينه و نؤمن به، و نتول عليه، و نعوذ به من شرور أنفسنا، و من سيئات أعمالنا الذي لا هادي لمن ضلّ، و لا مضلّ لمن هدى، و أشهد أن لا إله إلّا اللّه، و أنّ محمّدا عبده و رسوله.
أمّا بعد: أيّها الناس قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمر نبيّ إلّا مثل نصف عمر

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 90

الذي قبله، و إنّي أوشك أن أدعى فأجيب، و إني مسئول و أنتم مسئولون، فما ذا أنتم قائلون؟
قالوا: نشهد أنك بلّغت و نصحت و جهدت فجزاك اللّه خيرا.
قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلّا اللّه، و أن محمّدا عبده و رسوله، و أن جنّته حقّ، و ناره حقّ، و أن الموت حقّ، و أن الساعة آتية لا ريب فيها، و أنّ اللّه يبعث من في القبور؟
قالوا: بلى نشهد بذلك.
قال: اللّهم اشهد، ثمّ قال:
أيّها الناس ألا تسمعون؟ قالوا: نعم.
ثمّ ساد الجوّ صمت عميق، و لم يسمع فيه سوى أزيز الرياح .. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «... فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين».
فنادى مناد: و ما الثقلان، يا رسول اللّه؟
قال: الثقل الأكبر كتاب اللّه طرفّ بيد اللّه عزّ و جلّ، و طرف بأيديكم فتمسكوا به لا تضلّوا، و الآخر الأصغر عترتي، و إنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض، فسألت ذلك لهما ربّي، فلا تقدّموهما فتهلكوا، و لا تقصروا عنهما فتهلكوا.
ثمّ أخذ بيد علي فرفعها حتى رؤي بياض آباطهما، و عرفه القوم أجمعون، فقال:
أيّها النّاس: من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟
قالوا: اللّه و رسوله أعلم.
قال: إنّ اللّه مولاي، و أنا مولى المؤمنين، و أنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعليّ مولاه، «يقولها ثلاث مرات»، و في لفظ الإمام أحمد إمام الحنابلة: «أربع مرات». ثمّ قال: «اللّهم و ال من والاه، و عاد من عاداه، و أحبّ من أحبّه،

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 91

و أبغض من أبغضه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله، و أدر الحقّ معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب».
ثمّ لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي اللّه بقوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ... الآية. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«اللّه أكبر على إكمال الدين، و إتمام النعمة، و رضى الرّب برسالتي و الولاية لعلي من بعدي».
ثمّ طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين عليه السّلام و ممن هنّأه أبو بكر و عمر كلّ يقول: بخّ بخّ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت و أمسيت مولاي و مولى كل مؤمن و مؤمنة.

و قال ابن عباس: وجبت و اللّه في أعناق القوم.
و انبرى حسان بن ثابت، شاعر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يستأذنه في تخليد ذكرى هذه الحادثة في شعره، فقال:
يناديهم يوم الغدير نبيّهم‏  بخم و أسمع بالرّسول مناديا
                                               فقال: فمن مولاكم و نبيّكم؟  فقالوا، و لم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا و أنت نبيّنا  و لم تلق منا في الولاية عاصيا

                                               فقال له: قم يا عليّ فإنّني‏  رضيتك من بعدي إماما و هاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه‏  فكونوا له أتباع صدق و واليا

                                             هناك دعا: اللّهم وال وليه‏  و كن للذي عادى عليا معاديا «1»

محاورات و شبهات:

ليس ثمّة شك في أنّ هذه الآية، لو لم تكن قد نزلت في خلافة علي عليه السّلام،
______________________________
(1)- نقل هذه الأبيات جمع من كبار علماء أهل السنة، منهم: الحافظ أبو نعيم الأصفهاني، و الحافظ أبو سعيد السجستاني، و الخوارزمي المالكي، و الحافظ أبو عبد اللّه المرزباني، و الكنجي الشافعي، و جلال الدين السيوطي، و سبط بن الجوزي، و صدر الدين الحموي، و غيرهم.

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 92

لأكتفي فيها- كما قلنا- بأقل ممّا ورد فيها من روايات و من قرائن موجودة في الآية نفسها، فكثير من كبار المفسّرين المسلمين يكتفون في تفسير سائر الآيات القرآنية حتى بعشر الرّوايات الموجودة بشأن هذه الآية، أو أقل من ذلك. و لكن ممّا يؤسف له أنّ حجاب التعصب قد حال دون قبول كثير من الحقائق.

إنّ الذين يحملون لواء المخالفة تجاه تفسير هذه الآية و الرّوايات الكثيرة الواردة بشأن نزولها، و الرّوايات المتواترة بخصوص أصل حادثة الغدير، ينقسمون إلى قسمين:

قسم حمل منذ البداية روح العناد و التعنت، و حمل بشدّة على الشيعة بالإهانة و السب و الشتم.
و آخرون حافظوا- إلى حد ما- على الروح العلمية في البحث و التحقيق، و تابعوا القضية عن طريق الاستدلال، و لذلك فهم يعترفون بجانب من الحقائق، و لكنّهم بعد إيرادهم بعض الإشكالات- التي ربّما كانت نتيجة لظروفهم الفكرية الخاصّة يتركون الوقوف عند الآية و الرّوايات المرتبطة بها.

و النموذج البارز الذي يمثل القسم الأوّل هو ابن تيمية في كتابه «منهاج السنة» حيث يبدو فيه كمن يغمض عينيه في رابعة النهار و يضع أصابعه في أذنيه بشدّة، ثمّ ينادي: أين الشمس؟ فلا هو مستعد أن يفتح طرفا من عينه ليرى بعض الحقائق، و لا هو يرضى برفع أصابعه عن أذنيه كي يستمع الى ضجيج المحدثين و المفسّرين المسلمين، بل يستمر في سبه و شتمه و إهاناته.

إنّ دافع هؤلاء هو الجهل و عدم الاطلاع و التعصب المقرون بالعناد، ممّا دفع بهم إلى إنكار البديهيات و الواضحات التي لا تخفى على أحد.

لذلك فنحن لا نجشم أنفسنا عناء نقل أقوالهم، و لا نحمل القراء عناء سماع إجاباتهم، فما ذا يمكن أن يقال لمن ينبري بكل وقاحة لتجاهل هذا الحشد الكبير من كبار علماء الإسلام و المفسّرين- و معظمهم من أهل السنة- من الذين أعلنوا

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 93

أن تلك الآية قد نزلت بشأن علي عليه السّلام فيدعي- متعاميا عن الحقّ- أن أحدا من العلماء لم يقل شيئا كهذا في كتابه!! و ما قيمة قوله هذا ليستحق البحث فيه؟! من الجدير بالذكر أنّ ابن تيمية، في محاولته تبرئة نفسه قبال كل هذه الكتب المعتبرة التي تقول بنزول هذه الآية بحق علي عليه السّلام، يلجأ إلى تعبير مضحك، و يكتفي بقوله:

«إن العلماء الذين يعرفون ما يقولون لا يرون أن هذه الآية قد نزلت في علي»!! فالظاهر «أنّ العلماء الذين يعرفون ما يقولون» هم أولئك الذين يضمون أصواتهم إلى أصوات ابن تيمية و عناده المفرط. أمّا من لا يضمّ صوته إليه فإنّه عالم لا يدرك ما يقول. و هذا منطق من ألقى العناد و حبّ الذات على عقله ظلالا مشؤومة، فلندع هؤلاء.

أمّا الشبهات التي أوردها القسم الثّاني من العلماء، فمنها ما يجدر بالبحث، و سوف نتناولها فيما يلي:

1- هل معنى «المولى» هو «الأولى بالتصرف»؟
إنّ أهم اعتراض يورد على حادثة الغدير هو أنّ من معاني «مولى» الصديق و النصير و المحب، و من الممكن أن تكون الكلمة هنا بهذا المعنى أيضا.
ليس رد هذا الاعتراض بصعب، لأنّ كل ناظر منصف يدرك أن تذكير الناس بمحبّة علي عليه السّلام لا يقتضي كل تلك المقدمات، لا إلقاء خطبة في تلك الصحراء القاحلة و تحت ذلك الحر المحرق، و إيقاف تلك الجموع و انتزاع الاعترافات المتوالية منهم. إنّ حب المسلم لأخيه المسلم من المفاهيم الإسلامية الواضحة التي تقررت منذ بداية الدعوة.
ثمّ إنّ هذا الأمر لم يكن من الأمور التي لم يبلغها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى ذلك الوقت، بل ثبّته و أعلنه مرارا.

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 94

كما إنّه لم يكن من الأمور التي تثير قلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تخوفه حتى يطمئنه اللّه تعالى بشأنه.

و لا كان أمرا على هذا القدر من الأهمية بحيث تتخذ الآية هذا الأسلوب الشديد في مخاطبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ‏.
كل هذه تدل على أنّ الأمر كان أكثر من مجرّد محبّة عادية تلك المحبّة التي كانت من أوليات الأخوة الإسلامية منذ بزوغ فجر الدعوة الإسلامية.

ثمّ، إذا كان القصد هو تبيان مثل هذه المحبة العادية، فلما ذا يعمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى استخلاص الاعترافات من الحاضرين قبل بيان قصده، فيسألهم:
«أ لست أولى بكم من أنفسكم» «1»؟ أ يتناسب هذا مع بيان محبّة عادية؟
ثمّ إنّ المحبّة العادية لا تستدعي من الناس، و حتى من عمر نفسه، أن يهنئ عليا عليه السّلام بقوله:
«أصبحت مولاي و مولى كل مؤمن و مؤمنة» «2».

حبّ المسلم واجب، و عليّ كسائر المسلمين، و يجب حبّه، و ليس في ذلك شي‏ء جديد يستوجب التهنئة في ذلك اليوم و في آخر سنة من حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
ثمّ إنّ هناك ارتباطا بين حديث «الثقلين» «3» و عبارات وداع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و موالاة علي عليه السّلام، و إلّا فإنّ حبّ علي عليه السّلام حبّا عاديا لا يستدعي أن يجعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مصافّ القرآن! أ فلا يرى المنصف المحايد في التعبير الوارد في حديث الثقلين أنّ المسألة
______________________________
(1)- وردت هذه العبارة في روايات كثيرة.
(2)- هذا القسم من الحديث يعرف بحديث «التهنئة» و قد أورده كثير من كبار علماء الحديث و التّفسير و التّأريخ من أهل السنة، عن طريق عدد من الصحابة، مثل: ابن عباس، و أبي هريرة، و البراء بن عازب، و زيد بن أرقم. و قد نقل العلّامة الأميني رحمه اللّه هذا الحديث في المجلد الأوّل من كتابه «الغدير» عن ستين عالما من علماء أهل السنة!.
(3)- «حديث الثقلين» من الأحاديث المتواترة التي وردت في كتب أهل السنة عن جمع من الصحابة، منهم: أبو سعيد الخدري، و زيد بن أرقم، و زيد بن ثابت، و أبو هريرة، و حذيفة بن أسيد، و جابر بن عبد اللّه الأنصاري، و عبد اللّه بن حنطب، و عبد بن حميد، و جبير بن مطعم و ضمرة الأسلمي، و أبو ذر الغفاري، و أبو رافع، و أم سلمة، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 95

تتعلق بالقيادة، لأنّ القرآن هو القائد الأوّل للمسلمين بعد رحيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل البيت عليهم السّلام هو القائد الثّاني؟

2- ترابط الآيات‏
قد يقال أحيانا إنّ الآيات السابقة و اللاحقة على هذه الآية تخص أهل الكتاب و مخالفاتهم. و هذا ما يقول به صاحب تفسير «المنار» في المجلد 6 صفحة 466 و يصر على ذلك.

و لكن لا ضير في ذلك- كما قلنا في تفسير الآية نفسها- لأنّ اختلاف لحن الآية يختلف عن مواضيع الآيات التي قبلها و بعدها. و ثانيا سبق أن قلنا مرارا أن القرآن ليس كتابا أكاديميا يلتزم في مواضيعه أسلوب التبويب و التقسيم إلى فصول و فقرات معينة، بل إنّ آياته نزلت بحسب الحاجات و الحوادث و الوقائع المختلفة الطارئة.

لذلك نلاحظ أنّ القرآن في الوقت الذي يتكلم عن إحدى الغزوات، ينتقل إلى ذكر حكم من الأحكام الفرعية- مثلا- و في الوقت الذي يتحدث عن اليهود و النصارى، يخاطب المسلمين و يذكرهم بأحد القوانين الإسلامية السابقة. (راجع بحثنا في بداية تفسير هذه الآية لزيادة التوضيح).

من العجيب أنّ بعض المتعصبين يصرّون على القول بأنّ هذه الآية قد نزلت في أوائل البعثة، مع أن سورة المائدة نزلت في أواخر عمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فإذا قالوا: إن هذه الآية وحدها نزلت في مكّة في أوائل البعثة، ثمّ أدخلت في هذه الآية للتناسب نقول: إن هذا على عكس ما تبحثون عنه تماما، لأننا نعرف أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أوائل البعثة لم يصطدم باليهود و لا بالنصارى. و عليه فإن ارتباط هذه الآية ينقطع بما قبلها و ما بعدها من آيات (تأمل بدقّة).
هذه كلها أدلة على أن هذه الآية قد تعرضت إلى هبوب عواصف التعصب،

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 96

فأحاطت بها بعض علامات الاستفهام ممّا لا يعتور آيات مشابهة أخرى أبدا. أمّا هذه الآية فكل يحاول من جهة أن يتشبث بما حرفها عن مسيرها.

3- أتذكر الصّحاح كلّها هذا الحديث؟
يقول بعضهم: كيف يمكن قبول هذا الحديث مع أنّه لم يرد في صحيحي مسلم و البخاري؟
و هذا من عجائب القول أيضا: فهناك:

أوّلا: كثير من الأحاديث المعتبرة التي قبل بها أهل السنّة مع أنّها ليست في صحيحي مسلم و البخاري، فهذا الحديث ليس الأوّل من نوعه في هذه الحالة.

ثانيا: هل أنّ هذين الصحيحين هما الكتابان الوحيدان الموثقان عندهم، مع أنّ هذا الحديث قد ورد في سائر الكتب الأخرى المعتبرة عندهم، و حتى في بعض الصحاح الستة (و هي التي يعتمدها أهل السنة)، مثل «سنن ابن ماجة» «1» و «مسند أحمد» «2». و هناك علماء مثل «الحاكم النيسابوري» و «الذهبي» و «ابن حجر» اعترفوا بصحة الكثير من طرق هذا الحديث، على الرغم ممّا عرف عنهم من التعصب.
لذلك فلا يستبعد أن يقع البخاري و مسلم تحت ضغط السياسة الذي ساد زمانهما، فلم يستطيعا، أو لم يشاءا أن يقولا ما لا يتلاءم و رغبة سلطات زمانهما في كتابيهما.

4- لم لم يستدل علي و أهل البيت عليهم السّلام بهذا الحديث؟
يقول بعض: لو كان حديث الغدير- على عظمته- صحيحا فلما ذا لم يستدل به‏
______________________________
(1)- المجلد الأوّل، ص 55 و 58.
(2)- مسند أحمد، المجلد الأول، الصفحات 84 و 88 و 118 و 119 و 152 و 331 و 281 و 370.

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 97

علي عليه السّلام و أهل البيت عليهم السّلام و أصحابهم و محبّوهم عند اقتضاء الضرورة؟ ألم يكن من الخير لو أنّهم استندوا إلى مثل هذا السند المهم لإثبات حق علي عليه السّلام؟

هذا أيضا قول آخر ينبع من عدم الإحاطة بالمصادر الإسلامية في حقل الحديث و التّفسير و التّأريخ، إذ أنّ كثيرا من كتب علماء السنة قد ذكرت أن عليّا عليه السّلام و أئمّة أهل البيت عليهم السّلام و أتباعهم قد استدلوا فعلا بحديث الغدير.

فهذا الخطيب الخوارزمي الحنفي‏
في «المناقب» يروي عن عامر بن واثلة، قال: كنت على الباب يوم الشورى مع علي عليه السّلام في البيت و سمعته يقول: «لأحتجنّ عليكم بما لا يستطيع عربيكم و لا عجميكم تغيير ذلك» ثمّ قال: «أنشدكم اللّه أيّها النفر جميعا أ فيكم أحد وحّد اللّه قبلي؟» قالوا: لا (ثمّ استمر في تعديد مناقبه و فضائله) ... إلى أن قال:

«فانشدكم باللّه هل فيكم أحد قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره، ليبلّغ الشاهد الغائب، غيري؟».
قالوا: اللهم لا ...» الحديث‏ «1».

هذه الرواية يذكرها الحمويني في «فرائد السمطين» في الباب 58، و ابن حاتم في «الدر النظيم» و الدار قطني، و ابن عقدة، و ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة.

كذلك نقرأ في «فرائد السمطين» في الباب 58 أن عليا عليه السّلام استشهد بحديث الغدير أمام جمع من الناس في المسجد على عهد عثمان، و في الكوفة أيضا استند إلى هذا الحديث لتفنيد رأي الذين أنكروا خلافته بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مباشرة.

يقول صاحب كتاب «الغدير»: إنّ أربعة من الصحابة و أربعة عشر من التابعين قد رووا هذا الحديث حسب ما نقلته مصادر أهل السنة المعروفة.
______________________________
(1)- «المناقب»، ص 217.

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 98

و كما يقول الحاكم النيسابوري- في الصفحة 371 من المجلد الثّالث- من «المستدرك» فإنّ عليا عليه السّلام قد استشهد بهذا الحديث يوم حرب الجمل أمام طلحة.

كذلك في حرب صفين- كما يقول سليم بن قيس الهلالي- إنّ عليا كان في عسكره و أمام جمع من المهاجرين و الأنصار و القادمين من أطراف البلاد، فاستشهد بهذا الحديث فقام إثنا عشر من الذين أدركوا بدرا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أكّدوا أنّهم سمعوا الحديث من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و بعد علي عليه السّلام استند إلى هذا الحديث سيدة الإسلام فاطمة الزّهراء عليها السّلام و الإمامان الحسن و الحسين عليهما السّلام و عبد اللّه بن جعفر، و عمّار بن ياسر، و قيس بن سعد، و عمر بن عبد العزيز، و المأمون الخليفة العباسي.

بل أنّ عمرو بن العاص في رسالة له إلى معاوية أراد أن يثبت لمعاوية فيها أنّه على علم تام بالحقائق الخاصّة بمكانة كل من علي عليه السّلام و معاوية بالنسبة للخلافة، فاستشهد صراحة بحديث الغدير، و قد نقله الخطيب الخوارزمي الحنفي في كتابه «المناقب» صفحة 124 (على الذين يرغبون في المزيد من التوضيح بشأن استدلال علي عليه السّلام و أهل البيت و بعض الصحابة و غير الصحابة بحديث الغدير، أن يرجعوا إلى الصفحات 159- 213، من المجلد الأوّل من كتاب «الغدير» فقد أورد العلّامة الأميني رحمه اللّه أسماء 22 من الصحابة، و غير الصحابة ممن استدلوا بهذا الحديث).

5- مفهوم الجملة الأخيرة من الآية
يقولون: لو كانت الآية تخص تنصيب علي عليه السّلام في الخلافة و الولاية و ترتبط بحديث غدير خم، فما علاقة كلّ هذا بما جاء في آخر الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ‏.
للردّ على هذا الاعتراض يكفي أن نعرف أنّ لفظة «الكفر» في اللغة و في‏

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 99

القرآن تعني الإنكار و المخالفة و الترك. فمرّة يقصد بها إنكار اللّه و نبوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و مرّة يراد بها إنكار بعض الأحكام أو مخالفتها، ففي الآية (97) من سورة آل عمران فيما يرتبط بالحج نقرأ: وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ‏ و الآية (102) من سورة البقرة تصف السحرة و الذين تلوثوا بالسحر بأنّهم كفّار:

وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ، و في الآية (22) من سورة إبراهيم نرى أنّ الشيطان يندد يوم القيامة بأولئك الذين أطاعوه و اتبعوه و يقول لهم: إنكم بعد إطاعتكم أوامر اللّه قد جعلتموني شريكا له، و إني اليوم أكفر بعملكم ذاك: إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ‏، و عليه، فلا عجب أن يطلق القرآن صفة الكفر على الذين يخالفون مسألة الولاية و الخلافة.

6- هل يمكن وجود وليّين في وقت واحد؟
من الذرائع الأخرى التي تذرعوا بها للنكوص عن هذه الحديث المتواتر و الآية المذكورة، هي أنّه إذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد نصب عليا عليه السّلام يوم الغدير للخلافة و الولاية، فإن ذلك يعني وجود وليّين و قائدين في وقت واحد.

إلّا أنّ الالتفات إلى الظروف الزمانية الخاصّة بنزول الآية و ورود الحديث، و كذلك القرائن المستوحاة من خطبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تنفي هذه الذريعة أيضا، إنّنا نعلم أنّ هذا الحدث قد جرى في أواخر عمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنّه كان يبلغ الناس بآخر الأوامر لأنّه‏
قال‏ «و إنّي أوشك أن أدعى فأجيب».

إنّ من يقول هذا لا شك في أنّه بصدد تعيين خليفته، و إنّه يضع الخطط للمستقبل، لا للحاضر، كذلك من الواضح، إنّه لا يقصد إعلان وجود قائدين أو وليّين في وقت واحد.
و ممّا يلفت النظر أنّ بعض علماء أهل السنة الذين يطرحون هذا الاعتراض، يتقدم بعضهم برأي يناقض ذلك تماما، و هو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد عين عليا عليه السّلام في‏

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏4، ص 100

الخلافة و الولاية، و لكنّه لم يعين تأريخ التعيين، فما المانع أن يأتي ذلك بعد ثلاثة خلفاء؟
إنّه لأمر محير حقّا! يتشبثون بألوان المتناقضات لكي يبتعدوا عن حقيقة القضية! ألا يسأل هؤلاء أنفسهم: إذا أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يعين خليفته الرابع ضمانا لمستقبل المسلمين، فلما ذا لم يعين الخليفة الأوّل و الثّاني و الثّالث في يوم الغدير، و هم يتقدمون الرّابع و تنصيبهم مقدم على الأوّل؟! و مرّة أخرى نكرر مقولتنا السابقة لنختم به بحثنا هذا، و هي أنّه لو لا وجود نظرات خاصّة في الأمر، لما حدثت كل هذه الاعتراضات و الإشكالات بشأن هذه الآية و هذا الحديث، كما لم يحدث شي‏ء من ذلك في غيرهما.

نسخه شناسی 

درباره مولف

کتاب شناسی

منابع: 

مكارم شيرازى، ناصر، الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل‏، قم‏، مدرسه امام على بن ابى طالب‏، 1421 ق‏، چاپ اول، ‏ ج‏4، صص 82 - 100