آیه 3، سوره مائده : المنتخب من تفسير التبيان

المنتخب من تفسير التبيان، ج‏1، ص: 199

و قوله «و لحم الخنزير» معناه: و حرم عليكم لحم الخنزير أهلية و برية، فالميتة و الدم مخرجهما في الظاهر مخرج العموم و المراد بهما الخصوص، و لحم الخنزير على ظاهره في العموم. و كذلك كلما كان من الخنزير حرام، كلحمه من الشحم و الجلد و غير ذلك.

و قوله‏ «وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» موضع «ما» رفع، و تقديره: و حرم عليكم ما أهل لغير اللّه به.
و معنى‏ «أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ» ما ذبح للأصنام و الأوثان، أى: ذكر اسم غير اللّه عليه، لان الإهلال رفع الصوت بالشي‏ء، و منه استهلال الصبي، و هو صياحه إذا سقط من بطن أمه، و منه إهلال المحرم بالحج أو العمرة إذا لبى به، قال ابن أحمر:

يهل بالفرقد ركباننا  كما يهل الراكب المعتمر
 
فما يقرب به من الذبح لغير اللّه، أو ذكر عليه غير اسمه حرام، و كل ما حرم أكله مما عددناه يحرم بيعه و ملكه و التصرف فيه.

و الخنزير يقع على الذكر و الأنثى.

و في الاية دلالة على أن ذبائح من خالف الإسلام لا يجوز أكلها، لأنهم يذكرون عليها اسم غير اللّه، لأنهم يعنون بذلك من أبد شرع موسى، أو اتخذ عيسى ابنا، و كذب محمد بن عبد اللّه عليه السّلام، و ذلك غير اللّه، فيجب أن لا يجوز أكل ذبيحته فأما من أظهر الإسلام و دان بالتجسيم و الصورة و قال بالجبر و التشبيه أو خالف الحق فعندنا لا يجوز أكل ذبيحته. فأما الصلاة عليه و دفنه في مقابر المسلمين و موارثته، فانه يجري عليه، لان هذه الأحكام تابعة في الشرع لإظهار الشهادتين. و أما مناكحته، فلا يجوز عندنا.

و قال البلخي حاكيا عن قوم: انه لا يجوز اجراء شي‏ء من ذلك عليهم. و حكى عن آخرين أنه يجري جميع ذلك عليهم، لأنها تجرى على من أظهر الشهادتين‏

المنتخب من تفسير التبيان، ج‏1، ص: 200

دون المؤمنين على الحقيقة، و لذلك أجريت على المجانين و الأطفال.
فأما التسمية على الذبيحة، فعندنا واجبة، من تركها متعمدا لا يحل أكل ذبيحته و ان تركه ناسيا لم يحرم، و في ذلك خلاف بين الفقهاء ذكرناه في الخلاف.

و المنخنقة قال السدي: هي التي تدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتخنق و تموت. و قال الضحاك: التي تختنق فتموت. و قال قتادة: هي التي تموت في خناقها. و قال ابن عباس: هي التي تختنق فتموت. و حكي عن قتادة أن اهل الجاهلية كانوا يختقونها ثم يأكلونها.

و الاولى حمل الاية على عمومها في جميع ذلك، و هي التي تختنق حتى تموت سواء كان في وثاقها أو بإدخال رأسها في موضع لا يقدر على التخلص أو غير ذلك.

و قوله «و الموقوذة» يعني: التي تضرب حتى تموت، يقال و قذتها أقذها و قذا و أوقذها يوقذها إيقاذا أثخنتها ضربا، قال الفرزدق:
شغارة تقذ الفصيل برجلها  فطارة لقوادم الأبكار
 
و هو قول ابن عباس و قتادة و الضحاك و السدي.

و قوله «و المتردية» يعني: التي تقع من جبل، أو تقع من نهر أو من مكان عال فتموت، و هو قول ابن عباس و قتادة و السدي و الضحاك، و متى وقع في بئر و لم يقدر على موضع ذكاته. جاز أن يطعن و يضرب بالسكين في غير المذبح حتى يبرد ثم يؤكل.

و قوله «و النطيحة» يعني: التي تنطح أو تنطح فتموت. و النطيحة بمعنى المنطوحة، فنقل من مفعول الى فعيل، فان قيل: كيف تثبت فيها الهاء؟ و فعيل إذا كان بمعنى مفعول لا يثبت فيه الهاء مثل لحية دهين و عين كحيل بلا هاء التأنيث في شي‏ء من ذلك.

قيل: اختلف في ذلك فقال بعض البصريين أثبت فيها الهاء- أعني: في النطيحة-

المنتخب من تفسير التبيان، ج‏1، ص: 201

لأنها جعلت كالاسم، مثل الطويلة و الظريفة، فوجه هذا القائل‏ «1» النطيحة الى معنى الناطحة، و يكون المعنى حرمت عليكم الناطحة التي تموت من نطاحها.

و قال بعض الكوفيين: انما يحذف الهاء من فعيلة بمعنى مفعولة إذا كانت صفة لاسم قد تقدمها، مثل كف خضيب و عين كحيل و لحية دهين. فأما إذا حذف الكف و العين و اللحية، و الاسم الذي يكون فعيل نعتا له و اجتزوا بفعيل اثبتوا فيه هاء التأنيث ليعلم بثبوتها فيه أنها صفة للمؤنث دون المذكر، فنقول: رأينا كحيلة و خضيبة و أكيلة السبع، فلذلك دخلت الهاء في النطيحة، لأنها صفة للمؤنث.

و القول بأن النطيحة بمعنى المنطوحة هو قول أكثر المفسرين ابن عباس و ابن ميسرة «2» و الضحاك، لأنهم أجمعوا على تحريم الناطحة و المنطوحة إذا ماتا.

قوله «و ما أكل السبع» معناه: ما قتله السبع، و هو قول ابن عباس و الضحاك و قتادة، و هو فريسة السبع.
و قوله «الا ما ذكيتم» معناه الا ما أدركتم ذكاته فذكيتموه من هذه الأشياء التي وصفها.

و اختلفوا في الاستثناء الى ما يرجع، فقال قوم: انه يرجع الى جميع ما تقدم ذكره من قوله‏ «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ» الا ما لا يقبل الذكاة من الخنزير و الدم و هو الأقوى، ذهب اليه على عليه السّلام و ابن عباس، قال: و هو ان تدركه يتحرك أذنه أو ذنبه أو تطرف عينه، و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام، و به قال الحسن و قتادة و ابراهيم و طاوس و عبيد بن عمير و الضحاك.

و قال آخرون: هو استثناء من التحريم لا من المحرمات، لان الميتة لا ذكاة لها
______________________________
(1). في التبيان: تأويل.
(2). في التبيان: و أبو ميسرة.

المنتخب من تفسير التبيان، ج‏1، ص: 202

و لا الخنزير، قالوا: و المعنى حرمت عليكم الميتة و الدم و سائر ما ذكر الا ما ذكيتم مما أحله اللّه لكم بالتذكية فانه حلال لكم، ذهب اليه مالك و جماعة من أهل المدينة و اختاره الجبائي.

و سئل مالك عن الشاة يخرق جوفها السبع حتى يخرج أمعاؤها، فقال: لا أرى أن تذكي و لا يؤكل أي شي‏ء يذكى منها.

و قال كثير من الفقهاء: انه يراعى أن يلحق و فيها حياة مستقرة فيذكى، فيجوز أن يؤكل، فأما ما يعلم أنه لا حياة فيه مستقرة فلا يجوز بحال. و اختار الطبري الاول و قال: كل ما أدرك ذكاته مما ذكر من طير أو بهيمة قبل خروج نفسه و مفارقة روحه جسده، فحلال أكله إذا كان مما أحله اللّه لعباده، و اختار البلخي و الجبائي الاول.
فان قيل: فما وجه تكرار قوله‏ «وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» و المنخنقة و الموقوذة و جميع ما عدد تحريمه في هذه الاية، و قد افتتح الاية بقوله‏ «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ» و الميتة تعم جميع ذلك، و ان اختلفت أسباب موته من خنق أو ترد أو نطح أو إهلال لغير اللّه أو أكيل سبع، و انما يكون كذلك على معنى قول من يقول: انها و ان كانت فيها حياة إذا كانت غير مستقرة فلا يجوز أكلها.

قيل: الفائدة في ذلك أن الذين خوطبوا بذلك لم يكونوا يعدون الميت إلا ما مات حتف أنفه من دون شي‏ء من هذه الأشياء «1»، فأعلمهم اللّه أن حكم الجميع واحد، و أن وجه الاستباحة هو التذكية المشروعة.

و التذكية: هو فري الأوداج و الحلقوم إذا كانت فيه حياة و لا يكون بحكم الميت و أصل الذكاء في اللغة تمام الشي‏ء، فمن ذلك الذكاء في السن و الفهم و هو تمام السن.

قال الخليل: الذكاء أن يأتي في السن على قروحه، و هو سن في ذات الحافر
______________________________
(1). في التبيان: الأسباب.

المنتخب من تفسير التبيان، ج‏1، ص: 203

هي البزولة في ذات الخف، و هي الصلوغة في ذات الظلف و ذلك تمام استكمال القوة، قال الشاعر:
بفضله إذا اجتهدا عليها  تمام السن منه و الذكاء
 

و قيل: جرى المذكيات غلاب، أي جرى المسان التي أسنت. و معنى تمام السن النهاية في الشباب، فإذا نقص عن ذلك أو زاد فلا يقال له الذكاء، و الذكاء في الفهم أن يكون فهما تاما سريع القبول.

و ذكيت النار انما هو من هذا تأويله أتممت اشعالها، فالمعنى على هذا الا ما ذكيتم، أي: ما أدركتم ذبحه على التمام.

قال المسلمون: كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم، فنحن أحق أن نعظمه فأنزل اللّه‏ «لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها» الاية «1».

و قوله‏ «وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ» واحد الازلام زلم و زلم، قال الراجز:
بات يراعيها غلام كالزلم و هي سهام كانت للجاهلية، مكتوب على بعضها أمرني ربي، و على بعضها نهاني ربي، فإذا أرادوا سفرا و أمرا يهتم به ضربوا تلك القداح، فان خرج السهم الذي عليه «أمرني ربي» مضى لحاجته، و ان خرج الذي عليه «نهاني ربي» لم يمض، و ان خرج ما ليس عليه شي‏ء أعادوها، فبين تعالى أن ذلك حرام العمل به.

نسخه شناسی

درباره مولف

کتاب شناسی

منابع: 

ابن ادريس حلى، ابوعبدالله محمد بن احمد، المنتخب من تفسير التبيان‏، تحقيق: سيد مهدى رجائى‏، قم، كتابخانه آيت الله مرعشى نجفى، 1409 ق‏، چاپ اول‏، ج1، صص199 - 201